فداءً للوهم!

السرديّات التاريخية حتى تكون معتبرة لابدّ أن تحقق شرط انتظام الوقائع في رواية غير مضطربة، ولذلك فهي تابعة للوقائع ومتحركة من أجلها، فإذا وجدنا السرديّة تهمل الوقائع التي تتناقص معها أو تنقضها، فهي تكون بذلك سرديّة غير معتبرة ويجب الإطاحة بها، وعلينا أن نفكّر جديّا في الوقائع قبل قبول سرديّة ما على أنها السرديّة التي تقدّم تفسيرا أفضل لوقائع التاريخ…


لكن ما يحدث في العقلية الماقبل علمية مختلف، فالوقائع تابعة للسرديّات، إما بتزييف ما يؤيد السرديّة من وقائع مختلقة، أو بتكذيب ما ينقضها من وقائع حقيقيّة، والسرديّة هنا يستحيل أن يكون مصدرها الإقناع والجدل المنطقي والبحث والتحرّي، بل مصدرها ببساطة المجموعةُ التي ينتمي معتنق السردية لها، أو المنفعة المتحققة له من اعتناقها، وهذا قد يكون مقبولا في حالات نادرة مثل استحالة المفاضلة بين سرديّتن باستخدام المنهج النقدي فيكون اعتناق أيهما مقبولا شرط ألا يتعصب لها معتنقها ويؤكّد على نفي السردية الأخرى وإقصائها من مدار البحث والتساؤل والاعتبار.

في حالة تساوي سرديّتين بما يحققان من شروط الاعتبار، فإن المفاضلة بينهما قد تكون بدافع مصلحي، أو بدافع الشعور القومي، أو سوى ذلك، لكن القبول برواية تاريخية مضللة وكاذبة بمسوّغ التعصّب هو حماقة خالصة لا يشوبها عقل!

لكننا نجد أن هذا الميل للمفاضلة العلمية بين الرويات التاريخية غير متوفر هنا ولا يشعر الناس بحاجتهم له، لأنهم بناءً على ما يسبق المطالبة بالمحاكمة التي نطلبها قد قرّروا أن الشيء الفلانيّ هو الحق ولا حقّ غيره، وإذا مرّ ما يكفي من الزمن بين الوقائع ومعتنقي السرديّة، فقد تراهم وقد اختلقوا وقائع تاريخية تؤيّد روايتهم، وتداولوا روايات تكذّب الوقائع التي تتناقض مع روايتهم، ولحسن الحظ فإن جهدهم هذا لم يفلح في طمس الحقيقة تماما، وما زال البحث طريقا مثمرا ومجديا.

لكن الملفت للانتباه حقّا أن الخلاف على سرديّات حققت شروط الابتعاد عن وقائعها قد يكون مفهوما بعد أن اختلقت وقائع تجعل هذه الروايات متزنة، مثل الخلاف بين عليّ ومعاوية مثلا، فأصحاب كل سردية كوّنوا ما يشاؤون مما يقبلون كعوامل محددة ومرجحة لصدق روايتهم، ومع أنه يمكن نقضها ونقدها والوصول للحق منها بالبحث، إلا أنّ موقف الإنسان العاميّ ممكن فهمه وإن كان مرفوضا، لكن أحداثاً لم يمرّ عليها من الزمن ما يكفي لتشويه الوقائع زيادة ونقصانا، كيف ما تزال بعض رواياتها الحمقاء مقبولة!

المعضلة السابقة لها مبرر واحد لكي تبقى موجودة وهو انتفاء العقلية العلمية أصلا، وكون ما يحدث يحدث للأسباب الخاطئة، وأن السرديات تقدّم على الوقائع ويصبح الواقع المنظور القابل للفحص مرهونا للهوى والتعصب، المشكلة التي تكاد تنافس هذه بحجمها هي ماهية التعصّب ذاته هنا، فالتعصب طائفي قبلي مناطقي، وليس للوطن ككل أو للقومية (بمعناها الثقافي لا العرقي) ككل، وبالتالي هو شيء معروف أنه خاطئ لكنه فوق ذلك ذو أثر مدمّر.

والأثر المدمّر هذا يتجاوز الماضي والحاضر إلى المستقبل، حتى بصورة منفصلة عن كونه امتدادا للأثر الآنيّ والراهن لهذه السرديات، بل هي بحد ذاتها قد تتفاعل مع المستقبل بصورة تقضي عليه! لاسيّما وهي تقضي على العقلية العملية وتستبعدها من جسم المجتمع إن وجدت!

يبقى السؤال هل نحن مستعدون لتدمير حاضرنا ومستقبلنا وعقولنا وعقول أبنائنا مقابل ألا نعترف أن آباءنا كانوا مخطئين؟ ويبقى الجواب عن غالبيّتنا على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم للأسف الشديد: نعم! فنحن فداء الوهم المقدّس