وخطر فقدان القدرة عليها
لعلّ أهمّ المفاصل في التاريخ البشري تتعلق كلّها باللغة، فثورة المعلوماتية هي أكبر نقلة حدثت للإنسان بعد ثورة الطباعة، التي لم يسبقها في حجمها نقلة مثل اختراع الأبجدية، وقبل ذلك كانت النقلة الأولى وهي الأهم من جهة اعتماد سائر النقلات عليها، وهي اكتساب البشر القدرة على التسمية ليتحول لإنسان عاقل، وحتى النقلات الأخرى التي قد يعدّني بعض القرّاء قد تجاهلتها نرى أنها معتمدة بشكل أو بآخر على هذا السياق.
قالوا يقاس تطوّر مجتمع ما بقدرته على الاتصال، ومع أنني أوافق إلا أنني أزيد على ذلك، بأن أقول: إن اللغة تتعدى كونها وعاء فكر الفرد حيث يفكر بها، إلى كونها عقل الجماعة، فهي من حيث طريقة عملها في الجماعة، تحاكي طريقة عمل العقل في الفرد، وهي التمثيل الحقيقي لرقيّ المجتمع أو انحطاطه، وإنه ليعتورها من الأمراض والفصام ونحوها، ما يعتور العقل المفرد من الأمراض العقلية، ولكن ادعاءً كهذا يحتاج للتمثيل والمقابلة مما لا مجال للتوسع فيه هنا، لذلك لنتجاوز هذا إلى مبحثنا في هذه المقالة، وهو خطر التسمية، والخطر في العربية هو رفعة الشأن والمكانة، فما سأحاول التركيز عليه هو الدور الذي يتحتم علينا التصدي له من جهة التسمية في خدمة المشروع القومي العربي.
سمُوُّ فعل التسمية في الثقافة العربية، واضح جدا في التراث، الذي اعتقد أن التسمية هي هبة الله للإنسان، قال تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) ٣١ البقرة، وهي من جهة أخرى حجة الخالق على خلقه، الذين ادعوا أن الإنسان لا يصلح للاستخلاف في الأرض، فكانت هذه الآية هي جواب الله عليهم، ومن جهة ثالثة ترد آية أخرى بعدها بقليل، فيها يسجد الخلق لآدم _أي يسخّر له_ وبسبب ماذا؟ بسبب قدرته على التسمية التي وهبها الله له، فالتسمية هي حجة الاستخلاف، وسبب التسخير، وميزة الإنسان الأعلى على سائر الخلق، وكيف لا وهي التي تجعل العقل عقلا! وهي التي تقف خلف مفهوم الإرادة الإنسانية التي يختبرها الله في الحياة الدنيا.
قد يعترض قائل فيقول: إن مصداق مفهومِ التسمية الذي نُعنى به هنا هو ذاته اللغة، واكتساب القدرة على التسمية هو ذاته المقصود بنشأة اللغة! فلماذا الإصرار على مفهوم آخر ومفهوم اللغة يغطّي المراد؟ والجواب أن التطابق بين مصداقي المفهوين المختلفين في الأصل هو حادث متأخر، والتسمية هي أصل اللغة، أما عن هذا التطابق فاللغة باتت الآن فقط تحل محل التسمية، ولكنها قد تسلب الإنسان والأقوام القدرة على التسمية، لأنّ الإنسان يجنح للمفهوم المتداول، ويساوم على الدقة متحريا عدم الإغراب، بل وإنها قد تفسد العقل بدل أن تبنيه، أو بالأحرى تبني عقلا مختلا، واختلال اللغة من بعد اتزان يتسبب باختلال عقول الناس، والمصطلح المخترق يخترق صفوف الجماعة وقد يقودهم نحو حروب أهلية ويذهب ريحهم فيفشلهم.
لننظر إلى كل هذه التقنية في حقل الاتصال بوسائطها المتعددة، أليست كلها معتمدة في النهاية على اللغة، وبالآتي على التسمية! بل وإن قدرة المجتمع على الاتصال (أي مقياس الرقيّ كما أسلفنا) منوطة بالدرجة الأولى، بالقدرة على التسمية (اتصال مع الواقع المحسوس) وإشاعة الأسماء والاصطلاح عليها (اتصال مع الجماعة)، أي أن العلاقة بين اللغة من جهة وسائر الوسائط المعتمدة عليها والمتأثرة بها من جهة أخرى، كالعلاقة بين القدرة على التسمية من جهة وبين اللغة من الجهة الأخرى، على الترتيب، فالتسمية هي القمة النامية لنبات اللغة، وهي لابدّ وأن تكون مصاحبة للقمّة النامية للمجتمع ألا وهي الطليعة الثورية، وأظن هذا كافيا لبيان خطر التسمية أي رفعة شأنها فماذا عن خطر التسمية بكونه ضررا محتملا نحاذره؟
إن امتلاك الوسيط الأجنبي الغربي (من فيلم وأغنية وكتاب…) قدرةً أكبر على الاتصال مع أفراد مجتمعنا العربي، يعني ارتهاننا لتسمياتهم، والتي قد لا توافق مصداقا عربيا بالضرورة، والاسم الذي لا مسمى (مصداق) له، خطير ومخيف إذ هو منبع الوهم، فالعقل يبحث عن معنى ويجده، فإذا سبقت الأسماء على المسميات زمنا، فإن العقل يعاني من صعوبة التفكير بها، وينتج معانيَ لها حسب السياق الذي ترد فيه، فلا يتمكن العقل من فحص صدق جملة المعاني التي تشكل سياق المصطلح، وهكذا شاع وهم أن الديموقراطية هي بوابة السعادة والرفاه والسلام والقوة، وغيرها من الأغاليط الكثيرة التي لا مجال للتوسع في ذكرها، وهكذا تتشكل قمة نامية خبيثة مرهونة للعدوّ تعبده وتحاكيه كأنها نبات دوّار الشمس، لكنها تتبع الظلام، فيتحول المجتمع لمسخ مع مرور السنين.
اختلال العلاقة بين الاسم والمسمى والمعنى، أي بين اللفظ الذي نطلقه على شيء أو مفهوم، وبين الشيء أو المفهوم ذاته، وبين معناه في عقولنا وقلوبنا، هو تحطيم أو تشويه للثالوث اللغوي (الإسم، الشيء، الدلالة)، مما يسبب ميوعة العقل الجمعي، وكي أُحسنَ قبض المعنى لابدّ أن أذكر أنني أتحدث هنا عن اللغة بوصفها وسيطا للاتصال بين الجماعة كلهم بجاهلهم وعالمهم بعامتهم وخاصتهم، فعلى الذراع الفكرية لحركة التحرر القومي العربي، أن تتبنى حلا جذريّا لهذه المشكلة التي نواجه أعراضَها متفرقة بين الحين والآخر، فلا يكفي أن يكون المفكر ملمّا بالمعاني الدقيقة للمصطلحات الوافدة من المحتلّ الغربي الأطلنطيّ، بل عليه أيضا أن يعيَ أن مخاطبته للجماهير القومية لابدّ وأن تكون وقفا على الأسماء العربية، ولا حرج عليه أن يجترح اسما عربيا إذا لم يجده، أو أن يصرّف اسما عجميّا تصريفا عربيّا، وعليه بيانه للناس إما من خلال اللجوء للتعريفات، أو الركون للسياقات الواضحة، فورود الاسم أو المصطلح في سياق موجود على الخاطر العام، مفهوم لدى العامة سيولّد له معناه الذي يستحقه، ثم ينطلق بعد ذلك في بسط المعاني التي تستغل هذه اللبنة الجديدة في بناء الفكر العربي، هكذا _وهكذا فقط_ نعيد اصطفاف اللغة إلى جانبنا، ومعها كل الوسائط المعتمدة عليها، ونقلب الطاولة على وسائل الإعلام المعادية الناطقة بالعربية التي لا تساهم إلا في تشويه وإرباك الوعي العربي، والتشويش عليه.