الكتابة “تطبيقًا”

كتبت من قبل قراءة في كتاب “جيل التطبيق”، وكنت أحاول التوصل إلى قراءة منتجة لمعرفة لم ترد في الكتاب، ويمكن قراءته في هذا الرابط: جيل التطبيق بين الافتراضي والمفترض، وكثيرا ما تذكرت المقالة والكتاب وأنا أطالع بعض الكتابات هنا وهناك، منها ما انتقدته بصورة مباشرة وأكثرها تجاهلته، لكن الفكرة حول هذا النوع من الكتابة غير قابلة للتجاهل!

تقرأ نصا منقّحا ومدققا، ويحتوي صورا بلاغية، وألاعيب لفظية، ومفارقات، وكلَّ ما من شأنه أن يجعله نصّا جيّدا، من تنسيق جيد، وتفقير حسب الأصول، وعلامات ترقيم متموضعة في أماكنها، ورشاقة في الأسلوب، وجمل وصل غير مكررة، وترابط حقيقي بين مكونات النص، حتى إنك لو جاءك مثله كمعلم للغة العربية من طالب، لما وسعك أن تتهرب من منحه أعلى الدرجات، لكن ومع كل هذا فشعورك حوله ما يزال أنه نص فقير، غثّ، مصطنع!

الصلة بين هذا النص وبين فلسفة “التطبيق” صلة واضحة لمن يفهم المشكلة في كليهما، فهي مشكلة مركزية التقنية في العصر الحديث، فكل شيء يمكن تحويله لعملية، وكل عملية يمكن فصلها لمراحل، وكل مرحلة يمكن تعليمها بطريقة مقتضبة، وبهذا فكما يقتني حامل الهاتف الذكي تطبيقا يمكنّه من غاية ما، فالكتابة والقراءة أصبحتا تطبيقا، أو ما يشبهه.

اللغة تعلّم بالممارسة، ولذلك فإن الإنسان كلما اتسعت ثقافته، اتسع معجمه اللغوي، وتحسنت قدراته البيانية والبلاغية، فالثقافة تعني المزيد من القراءة، ومن نقاش ما نقرأ، ومن الكتابة حوله، تعبيرا عن خلجات أنفسنا حول ما قرأنا، ومع هذا فأنا سأبيّن أنه حديثا اختلف الميزان، أعني أنه لم يعد بالضرورة ثمة ارتباط بين العمق وسلامة اللغة، نعم ما يزال ثمة ارتباط ولكنه غير دائم، وحديثا ثمة شذوذ عن هذه القاعدة القديمة.

مثلا، قد يكون الكاتب صاحب ثقافة عالية بلغة أخرى غير اللغة التي يكتب فيها، لاسيما وأن الكاتب اليوم يواجه الجمهور بصورة مباشرة، دون وساطة دور النشر ووسائل الإعلام، فوسائط الإعلام المجتمعي وضعته أمام القارئ، فإذا كان يخاطب جمهورا ناطقا بالعربية، فقد يعبّر بالعربية التي قد لا تكون خياره الأمثل، وهكذا ستظهر ركاكة أسلوبه غير المعبرة بالضرورة عن ركاكة فكره.

الصورة المقابلة للمثال السابق هي ما أعني، وقد أوردت المثال لتوضيح إمكان الشذوذ فقط.

أما الحالة الأخرى فهي ناتجة عن ورش الكتابة الإبداعية، وتحويل الكتابة إلى اختصاص منفصل، وكتب توجيهية من طراز كتب مساعدة الذات تتناول فن الكتابة، ومزارع المحتوى المتمثلة في مئات المواقع الإلكترونية التي تتطلب المزيد من المقالات كلّ يوم، وعوامل أخرى عدّة تؤثر بالاتجاه نفسه، مثل ثقافة جيل التطبيق، التي توسعت في شرحها من قبل.

هذا كلّه جعل شروط الكتابة تختلّ، فالكتابة الجميلة لها صفتان أساسيّتان: أن تملك ما تقوله، أن تجوّد ما تقول.

امتلاكك ما تقول:

يعني أن تحيط بمعنى يستحق الكتابة، وهذا إما أن يكون فتقا جديدا ورؤية لم يسبقك إليه أحد، وإما أن يكون تفصيلا في شيء موجود من قبل لكنه مجمل غير مفصّل، أو أن يكون إجمالا لقول مفصّل، تستعين بقدرتك اللغوية لتأتي به على صورته المثلى. ما سبق يعني أنك تملك ما يستحق الكتابة.

تجويدك ما تقول:

يعني ألا تكتفي بوضوح تعبيرك فقط، ولا بأصالة فكرتك وكونها تستحق الكتابة، فتتعامل مع الكتابة على أنها فنّ يستحق منك إتقان الأمور الحرفية فيه، لتسهّل مهمة القارئ، وتجعل قراءة فكرتك رحلةً ممتعة لمن يقرأ، وربما كانت لك فتوحات في ما يخصّ الأسلوب.

كان هذا طبيعيا ولا يستحق التوضيح، ولا يستحقّ أن يدوّن، لأنه مؤكّد بصورة ضمنيّة، فمن الذي سيتعب نفسه في الكتابة دون أن تتوفر له الشروط السابقة! لكن اليوم الحال اختلف من جهتين، الجهة الأولى سبق توضيحها جزئيا وهي ما يسّر الكتابة لمن لم تتوفر فيه الشروط، أما الجهة الأخرى فهي لوثة المثقف، وتمرّده على الشروط الفنية، واحتفائه بالرداءة على أنها ضرب من ضروب الفلسفة ونتيجة للفهم العميق، وقد تناولت هذا من قبل في ما يخص الشعر في مقال أرجوك… ليس مقالا آخر عن الشعر، وكي لا أطيل على القارئ سأعود للأمر من شقه الأول الذي هو موضوع حديثنا.

الكتابة اليوم أمر مختلف، فوسائط التواصل الاجتماعي جعلت الجميع عرضة للكتابة، لاسيّما وأن هذه الوسائط في بدايتها اقترنت بالكتابة بصورة رئيسة، وبعد ظهور وسائط أخرى كالشرائط المصورة، والصور، والتسجيلات الصوتية، بدأ الموضوع يأخذ منحى جديدا، فلم يعد ثمّ من يطيل القول ممن لا يتقن وسيط الكتابة، أو يراه أسهل عليه من التصوير والتسجيل، لكنّ إتقان الكتابة كوسيط للتعبير ليس كافيا، فكثير ممن يكتبون لا يمتلكون ما يقولونه في الأصل، هم ضحايا صورتهم الاجتماعية، ومسار التطوّر التقني، وورشات الكتابة الإبداعية.

استسهال الكتابة له أسبابه كما سبق، بيد أن الأمر الأخطر هو ميكانيكياته، فحول كل قضية من القضايا التي تعرض للمجتمع ثمة أنماط جاهزة من ردود الفعل يختار بينها من يمارس الكتابة، فيستطيع أن ينتقد الشيء، أو ينتقد طريقة استقبال الناس له، أو ينتقد من ينتقدون، أو ينتقد كل هذا، لا كما أفعل الآن، بل بصورة تطهرية، قد يصاحبها تمجيد للثقافة الشعبوية، وإظهار الاحتقار لـ”نخبوية المثقفين” و”أبراجهم العاجية” و”مقاهيهم الثورية”، و”دلعهم” وما إلى ذلك.

إذن نحن أمام إنسان آليّ في ردود أفعاله، أو لنقل أمام إنسان ذي ردود أفعال آلية، تفتقر للعمق، والسبب الرئيس خلفها، هو الرغبة في الحديث، وما وراءها من حب الظهور، أو حب مشاركة الناس في كل ما يخوضون فيه من حوارات.

الكتابة ممارسة لغوية، واللغة تُدرس حيث هي، لا بأمثلة النحاة واللغويين المسبوكة لكي توافق القاعدة، فليقرأ كلّ منّا حول اختصاصه أكثر، أو فليقرأ حول أي اختصاص يهتمّ له، وليقرأ ليجيب عن أسئلة تعرض له، وليتابع القراءة ليجيب عن الأسئلة الجديدة التي ستتسبب القراءة بفتقها، ولنمتلك وعيا لغويا ونحن نقرأ، ونتعلم الكتابة من ممارسة اللغة كوسيلة تعبير عن الأفكار، لا بوصفها فكرة في حدّ ذاتها! فهذا باب للسخافة سواء جاء من كاتب ملتاث، أو جاء من غير الكتّاب الذين تمكّنوا من الكتابة في ورشة ما.

كل هذه الهالة القدسية حول الكتابة كانت مستمدّة من قدسيّة الأفكار، فإذا مارسها الناس بمعزل عن الأفكار الأصيلة التي تستحق الكتابة، كانوا منتجين للرداءة ذات الشكل الجميل، والمفارقة هنا أنّ هؤلاء سيحبون الكاتب الملتاث لأنه سيؤكد لهم على “عظمتهم”، فهم أكثر تمكنا منه من الكتابة كفنّ، والكاتب الملتاث من الجهة الأخرى سيحبّهم، لأنهم يؤكّدون له أنّ “المضمون العالي” المفترض، فيما يكتبه تحت تقنياته الملتاثة، هو العيار الأهمّ، فها هي الكتابة الملتزمة تقنيًّا “فارغةُ المحتوى” كما سيردّد مستشهدا بهم!