كيف خدعوك؟

الضمير في العنوان عائد على الكهنة، الرويبضات الذين يسيّرون حياة الناس، ويصر الناس على اتباعهم، ويهاجمون كل من خالفهم، أي أننا نتحدّث عن الوسائل التي يتحكم الكهنة بالناس من خلالها، وإن كان عن طيف مخصص من الوسائل، أي تلك الخاصة بما يدعى “علمَ الإقناع”، فهذا الكلام محاولة لتحليل خطاب كهنة الإسلام خصوصا حسب نماذج آتية من فنون الإقناع أو “علم الإقناع”.

للكلام عدّة فوائد منتظرة، أولاها النداء في أذن المنوّم مغناطيسيًّا لعله ينتبه، وثانيتها محاولة تحسين تعويذة اليقظة التي يجب أن ننادي بها في أذن المنوّم مغناطيسيّا، ثالثتها إعطاء فكرة عن التعويذة التي أدّت لتنويم هؤلاء، هذا إن لم تكن تقتنع بالمعرفة كهدف أسمى، وواجب إنساني أوّل، ولعل الذي سنسرده هنا ممتع أيضًا!
الكهنة ليسوا كائنات بسيطة كما يعتقد أغلب “التنويريين”، وإن كان بعضهم بسطاء بالفعل فهذا لا يعني أن المنظومة بسيطة، فمجتمع من الأغبياء قد يكون مجتمعا ذكيّا، أو لنقل ماكرًا في هذه الحالة! هم بنوا جدران المتاهة بوعي، ونحن لن نقف على كل جدار في المتاهة، لكنها أنماط تتكرر، سنأتي على ذكر بعضها.
وإن لم يكن الإقناع علما بكل ما تحمله هذه التسمية من دلالات، وإن لم يكن فنّا تماما مع أنه من فنون القول والكلام، فالإقناع بالتأكيد أمر يدرس، وقد درس بالفعل على مدار سنين طويلة، وظهرت له قواعد، يمكننا أن نسميها قواعد الإقناع، سنمرّ عليها، ونضرب عليها ما تيسر من الأمثلة، وكيف تنطبق على كلام الكهنة.
القاعدة الأولى: المعاملة بالمثل.
إذ يلتزم الناس بشكل عفوي بسداد ما تلقوه من خدمات أو سلوكات أو غيرها. ومن أمثلة الحياة على هذه القاعدة، أن الناس تدعو لحفلات زفافها كل من سبق لهم أن دعوها لحفلات زفافهم.
وانظر للكهنة كيف يصرون على نداء تلاميذهم مستخدمين لازمة “شيخ”، وهذا يجعل التلاميذ ينادونهم بالمقابل باللازمة ذاتها، ويحرص أبناء كل طائفة منهم أن يمجدوا غيرهم من الكهنة داخل الطائفة، حتى لو ظهر للجماهير اختلاف بينهم بشكل واضح، ويحسبون هذا الاختلاف “رحمة”، وعلى ذلك يتعامل الناس مع هذه الخلافات بالمثل، مع أن التناقض يصل لأن يروي البخاري _مثلا_ روايتين متناقضتين إن صدقت واحدة فالأخرى بالتأكيد كاذبة! وكل من يضيء على التناقض قي نظرهم محبٌّ للفتنة، بالمقابل فقلما تجد إصلاحيين يزّكيان بعضهما البعض! ناهيك عن محبّة الكاهن المعلنة والمتشدق بها التي تصل حدّ الابتذال للناس “عامة المسلمين”، بينما تجد التنويري أو الإصلاحي دائم السخط على الناس، والناس بالفعل تميل بشكل عفوي للمعاملة بالمثل.
القاعدة الثانية: الاستكثار من القليل.
إذ يميل الناس بشكل عفوي للحصول على أي شيء يتصف بالندرة، ومن ذلك ازدياد الطلب على السلع التي يشيع أنها ستنقطع، حتى وإن لم تلزمهم، بل وحتى إن امتلكوا بعضها! وهذا عامل اقتصادي معروف، فالناس تضاعف حركة الاسهم من خلال قاعدة اتباع الموجة، فإذا ندر شيء ضاعفوا ندرته، وإذا اتصف شيء بالوفرة زهدوا به.
وانظر كيف يصر الكهنة من كل الفرق على فكرة الفرقة الناجية، واختفاء العلم، وموت العلماء، وأن الصالحين قلة، وأن ثمة شهرًا أهم من شهر، ويوماً أهمّ من يوم، وليلة أهم من سائر الليالي، وساعة في الليل أهمّ من الليل كله! بل وأن لله اسمًا أعظم لا يدعوه أحد به إلا استجاب! وسائر هذا من العلوم النادرة، وما يفترون من كذب عن الجهد العظيم الذي بذلوه في سبيل تحصيل ما عندهم، بل ويدرسون ظهوراتهم على الناس، فهنا إعلان لفرصة لقاء “الشيخ” فلان، في البلد الفلانية، والمحاضرة الأولى من نوعها التي سيلقيها في الناس، أو لقائه الأخير مع أهل المحلة الفلانية. وبهذا يقبل الناس عليهم، بينما تجد الإصلاحيين والتنويريين والنهضويين يكسدون بضاعتهم بكثرة التدليل عليها، ولا يذكرون الجهد الذي بذلوه في سبيل تحصيل معارفهم! وهي بالمناسبة ما يبرع فيه الملحدون أيضا من رواية قصصهم الملحمية من “الإيمان إلى الإلحاد”.
القاعدة الثالثة: السلطة.
إذ يميل الناس للاقتناع بما يقدّم لهم على يد “خبير” أو صاحب شرعية ما. ومن أمثلة هذا في الحياة استخدام الأطباء في الدعاية للمنتجات الطبية، ومعاجين الأسنان، وخلافها، حتى لو كان هذا الطبيب مجرد ممثل ارتدى معطفا أبيض.
وانظر للكهنة كيف يخصصون هيئة على أنها هيئة الصلاح، فثمة في كل طائفة سمتٌ شكليّ محدد للإنسان الصالح، طول اللحية وحلق الشاربين، والثوب القصير، واسدال الحطّة، أو هيئة العمّة، وحتى شكل الاسم من معادلة “أبو + اسم صحابيّ المنسوب للمكان الفلاني” وما إلى ذلك من عدّة النصب والاحتيال. ثم إنهم لا يألون جهدا في استعراض شهاداتهم بمهارة، ويحرصون على وجود شخص ذي مصداقية يقدّمهم للناس على أنهم أصحاب علم ومهارة وحذق! ناهيك عمّا يرد طيّ كلامهم من نسبة الكلام إلى أي اسم رنّان من أسماء السلف. بينما يعدّ التنويريون والإصلاحيون هذا نوعا من الخداع، والتواطؤ، حتى وإن كان خاليا من الكذب، لأنهم يحاذرون ألسنة زملائهم السليطة!
القاعدة الرابعة: الثباتية.
إذ يميل الناس إلى الثبات على ما عرفوا، إذ يعمل الناس على تعطيم التزاماتهم الصغيرة، بدلا من التزام كبير مرة واحدة. ومن أمثلة ذلك من الحياة أن توريط الناس في سلوك ما، يكون أسهل إذا كانوا سلكوا سلوكا مشابها له من قبل.
وانظر إلى الكهنة كيف يحصلون التزامات صغيرة من الناس في كل طور، ومن مقولاتهم المشهورة “لكل مقام مقال”، فيطالبون أتباعهم أولا بأشياء بسيطة، كالصحبة الصالحة، أو حضور درس واحد أسبوعيًّا، وهكذا، وهم يرددون وبكل وضوح أن التدرّج في الالتزام الديني أمر مطلوب، بل والتدرج في التناصح. بينما يطالبنا الإصلاحيون بالقفزات البهلوانية ويطلقون وعودهم الجوفاء بها!
القاعدة الخامسة: المودّة.
إذ يميل الناس للاقتناع بكلام من يحملون له الودّ، والمودّة هنا ناجمة عن عوامل ثلاثة هي: التشابه، فالناس تحب من يشبهها. الإطراء: الناس تحبّ من يطري عليها، ويكون ذلق اللسان. المعونة: الناس تحبّ من يمدّ لها يد العون.
وانظر إلى الكهنة وشبكة “الأعمال الخيرية” التي يملكون، مع أنهم في الحقيقة يبنون ثروات هائلة من تبرعات الناس لهم، لكنهم يحرصون على إظهار أنفسهم بصورة القائمين على حوائج الناس!أما نعومة اللسان بل ولزوجته فسائل ولا حرج! فهم لا يكفون عن توزيع الابتسامات، بل ولا يتحرجون من أداء دور المهرج، فالشبكة مليئة بمقاطع معنونة بعنواين من مثل: اضحك مع الشيخ فلان، ابتسامة مع الشيخ علان، وهكذا، ناهيك عن أنهم يقتربون من الناس عن طريق تمثّل صور آبائهم وأي قديم وإن كان مخالفا للقديم الذي يقدّسون، فلا تجدهم يعزّرون على قاتل أخته تحت قناع الشرف! مع أنه ضدّ ما تدعو إليه منظومتهم، المهم عندهم أن ينافقوا العامة، وهكذا فالمفصل هنا أن الإصلاحيّ يصارح الناس فتكرهه، والكاهن ينافقها فتحبّه!
القاعدة السادسة: الإجماع.
إذ يميل الناس لمحاكاة الغالبية، ويخافون كسر أي إجماع مزعوم. ومن أمثلة ذلك تعلق الناس بالتقاليد والعادات المجتمعية، مع أنهم كأفراد يدينونها ويجدونها ضارّة.
وانظر للكهنة كيف يتبجحون بكلمات من مثل “إجماع المسلمين” و”أجمع الأئمة” و”ما عليه جمهور العلماء” و”نهج السلف الصالح” وإلى ذلك من كلمات يدرك كل عالم بفنونهم أنها كلام فارغ، فلم يحدث أن أجمعت الأمة بشأن شيء، إذ حتى القرآن مختلف على سوره بين الصحابة! وكذلك فلا تجد الكاهن ينازع الناس على المتعارف عليه بينهم كما أسلفنا من قبل، ويصوّر لتابعه أن الأمة كلها على رأي واضح ينقله له، وما دام التابع ينظر للكون من عيني كاهنه فلن يلاحظ كذبه!
كانت هذه القواعد الستّ الأكثر فعالية للإقناع، مذيّلة بأمثلة من مسلكيات الكهنة التي تطابقها، أحصيتها لا لأروّج لاستخدامها بشكل لا أخلاقي بين الإصلاحيين، ولكن لأن الوعي بها لابدّ أن يكون نافعًا، فمعرفة ترسانة الخصم من الأسلحة التي تستخدم ضدّك مهم! سواء إن كنت من الإصلاحيين أو كنت من الجمهور المخدوع!