أداء “الإفتاء”|من باب البيان بالتمثيل

(مقال يحاول إنزال ما ندعوا له على أرض الواقع، في قضية الكاتب ناهض حتر، وبيان دائرة الإفتاء حوله)

استهزأ المعلقون ببيان دائرة الإفتاء حول “الرسم المسيء” بصورة مقيتة*، وتعدّوا على الدائرة وعلى فقائها بما قالوا، ومن باب إسكات الناعقين من مهاجمي الدولة، والسلم الأهليّ الذي دعت له دائرة الإفتاء، سنمرّ هنا على شرح آيتين من كتاب الله، مقارنين أداء الدائرة من خلال ما سنعرفه عن معنى الآيتين، مع أدائها المفترض لو اتكأت على الآيات، وإن كان ثمة نقد قاسٍ للدائرة فالغاية منه النصيحة الخالصة.

أكثر الآيات التي استشهد الناس بها مؤخرا في الأردن، بسبب قضية نشر رسم “مسيء”، كانت الآيتين 65 و66 من سورة التوبة، ونصهما هو: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ*لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) يسوقها عامّة الناس في مطالباتهم بالتشنيع على كاتب أردنيّ، فهل وقعت هذه الآيات في نفوسهم موقعها الصحيح؟ وهل لقيت حقّها من الفهم؟

نشرت دائرة الإفتاء الأردنية بيانا فيما يخص هذا الأمر، وتطرق البيان إلى نقاط عدّة، نورد تعليقنا على كلٍّ منها مذيّلا واحدة بواحدة:

  • التأكيد على أن المسلمين تاريخيا حملوا رسالة تسامح.

التعليق: هذه شعارات جميلة لا تتواءم مع النسخة المتبناة في المناهج المدرسية، وسائر المؤسسات الدينية حول التاريخ الإسلامي، مع أنها ترد في المناهج لكنها تتناقض مع نظرة القارئ للأحداث، فإذا صدّق الشعار والتاريخ معا، بات يرى القتل تسامحا!

  • فضح نيّة فئة مفترضة باتت تحارب الإسلام بحجة محاربة التطرف.

التعليق: أليس تخرّص النيّات تصرّفا آثما! فإن تجاوزنا عنه فيما يخص كاتبا واحدا، فما بالكم بمن سيحمل كلامكم هذا ليعممه على كل من يحارب التطرف!

  • التذكير برسالة عمّان وفحواها حول هذا الموضوع.

التعليق: مرّ على إصدار رسالة عمّان 12 عامًا، والتطرف في ازدياد، فهلا نظرتم في كفاءتها!

  • الإشارة إلى أن الاستهزاء بالذات الإلهية يؤجج الفتنة، وأن قتل الفتنة يكون بالذب عن الذات الإلهية، وقد حدّدوا كيفيّة الدفاع عن الله بإظهار المظهر السمح للإسلام.

التعليق: رغم إقرارنا بأن أفضل دفاع هو نبذ التطرف فعلا، والتصرف بسماحة، إلا أن قتل الفتنة يكون بقتل الفتنة ومواجهة التطرف، ودعاته الذين هدّدوا الحكومة صراحة بأعمال عنف، وهددوا سلامة الكاتب.

  • الإشادة بدور الدولة ومطالبة السلطات الأردنية بتغليظ عقوبة هذه الفعلة.

التعليق: نرى أن الإشادة هنا كانت من باب الأدب الجمّ فقط، فقد تبعها مطالبة بتصرف آخر، وما يشاد به حقيقة لا يطالب بتعديله، والأخطر أن هذا تكريس لحسبان هذه جريمة بالفعل قبل بتّ القضاء والأجهزة المختصة بملابساتها.

  • الدعوة إلى رص الصفوف وتجنّب الفتن.

التعليق: يلتقط الناس هذا الكلام على غير النية وراءه، فلا يرون فيه إلا إقرارًا بوجود الفتنة حقيقة، وهكذا فهو لا يؤدي المراد به، بل وإنه ليؤدي عكسه تماما.

  • التأكيد على ما سبق في الخاتمة.

التعليق: كان القارئ القياسيّ ينتظر أن يقع على حكم “شرعيّ” ولم يره، وختام البيان دون توضيح فقهيّ أو معنى جديد ساهم في ترك انطباع سلبيّ لدى العامة.

ومن المربك لمن أراد نصح الدولة الأردنية أو دائرة الإفتاء بمخرج من هذا الزقاق، أن دائرة الإفتاء منعت تصدير الفتاوى أو نصحها فيما يخص ما تصدره من فتاوى، ملحقة المنع بوصف انطباعيّ لا يحوي مفهوما صلبًا، بتخصيص الكلام عمّن فعل ذلك “بهدف الإساءة والتجريح”، وهذا يضعنا أمام خطر تطبيق القرار حسب الهوى أو بحسابات سياسية.

ومن المربك أيضا أن المواقع الإخبارية التي تدور في فلك أجهزة محددة في الدولة الأردنية، تداولت مطالبات بحظر مدعي عام الدولة النشر في قضية الرسم “المسيء” وهذا إذا أضيف للقرار السابق بمنع تصدير الفتاوى يعني أن الملتزم بالقانون الأردني لن يستطيع الكلام، وستخلو الساحة للمتطرفين.

لولا صاحب منعَ الفتوى، والإشاعات حول حظر النشر، تطبيقٌ فعليّ لقرار منع الفتوى والتجريح بدائرة الإفتاء، وما يصدر عنها، بمعاقبة المعلقين على فيسبوك الذين حاولوا إراقة ماء وجه دائرة الإفتاء بتعليقات وقحة، مغالية في التطرف، تنزّ قيحا وأمراضا نفسية! أو على الأقل شطبت تعليقاتهم أولا بأوّل، حتى لا تفقد دائرة الإفتاء هيبتها.

ومن باب التصدّي للنصح فيما يخص قضية الرسم المسيء، ألم يكن ليوفّي الغرض من البيان المصدّر، بيان آخر غيره، من الممكن أن يلحق به إذ إنه لا يتناقض معه، يتطرق البيان الجديد إلى:

  • إنّ كلمة الله هي العليا بكونها كلمة الله، ولا أحد مطالب بإعلائها، ولا رسم مهما كبر أو انتشر يقدر أن يسيء له.
  • إنّ استدخال الضغط الشعبي على القضاء، باسم الدين والله، يهدد نزاهة القضاء.
  • إنّ الدولة عليها أن تضرب بيد من حديد كل من يهدّد بأعمال إرهابية مستغلّا هذا الحدث، وأن تستدعي المعنيين وتحقق معهم بشأن ما انتشر على وسائل التواصل من دعوات لحرق البيوت وإباحة الدم وسواها.
  • إنّ عقوبة الاستهزاء بالرموز الدينية للمسلمين أو غيرهم، عقوبة تعزيرية يقررها وليّ الأمر، وتكون شرعا ما يقرره هو، وليس للمتقنّعين بالإسلام أن يزاودوا على العقوبة التي يراها هو حسب المصلحة.
  • إنّ هذه العقوبة إن تصدّى وليّ الأمر أو القضاء الذي يفوّضه لإصدارها، يجب أن تطبق على الجميع بالتساوي، فلا ينطلقنّ أحدٌ بإهانة أهل الملل الأخرى.
  • إنّ القضاء هو صاحب الكلمة القاطعة في وصف ما حدث على أنه جريمة، والتحقيق حول ملابساته والنية وراءه، وليس لأحد أن يتخرّص نية أحد.
  • إنّ دائرة الإفتاء جاهزة لبيان الرأي الشرعي في القضية للجهاز القضائي.
  • إنّ تكفير الآخر جريمة مهما كانت فعلته.
  • بيان توعية حول معنى الآيتين اللتين استشهد بهم كثيرا في هذه الضوضاء، وسبب نزولهما، وكيفية تعامل الرسول محمد، مع الذين تعنيهم هذه الآية، وألا أحد يستطيع أن يزاود على فهم الرسول للقرآن.

بيان كهذا كفيل بسدّ حلوق الناعقين بالفتن، وكفيل بإسكات من ينهر الدولة ويأمرها، ويلوّح باستخدام العنف من طرف خفيّ أو ظاهر، وكفيل بتوعية عامة الناس من المسلمين البسطاء بمعنى الآيتين، ودرجة مسئوليتهم في هذه الأحداث، وما هو المطلوب منهم شرعا، وهو ردّ بليغ على من يتسلقون على الفتن ليصلوا للسلطة.

أما وقد طرقت الأمر، فإني سأتناول معنى الآيتين من منظور الفقه التقليديّ، الذي لا أتبعه ولا أنادي به، ولكنه يلقى رواجا عند الناس، بسبب سوء نوعية مخرجات التعليم في الأردن، بل وحتى مدخلاته! وإليكم طرفا من بيانه:

الآيتان لا تتحدثان عن أناس سخروا من الله أبدا، بل تتحدث عن منافقين تآمروا سياسيا على الرسول، ولما استدعاهم تحججوا بالاستهزاء، فجاء الرد القرآنيّ أن هذا عذر أقبح من ذنب، وأما ذكر الله فيها، فهو بسبب أن الله رمز الجماعة المؤمنة الذي تواثق المؤمنون على عقدهم الاجتماعي باسمه، والتآمر السياسيّ ضدّ النبيّ يدخل في باب التعدّي على الله، وقولهم إنهم كانوا يستهزئون هو استهزاء بعهد قطعوه مع الله، وهذه هي القضية فلم يشتم أحدهم الله ولم يرسم له صورة.

الطريقة التي تعامل معهم بها الرسول هي العفو حسبُ، ولم يكن ثمة عقوبة لهم، بل وإن الرسول ردّ على صحابيّ كان معه حين مرّ عن كمينهم طلب إليه أن يقتلهم، قائلًا: “إِني أكره أن تقول العرب: إِنّ محمّداً لما انقضت الحرب بينه وبين المشركين وضع يده في قتل أصحابه، وهذا عيار خليق بالانتباه له، وبإنزاله منزله في قضية الرسم “المسيء”.

الكلام في هاتين الآيتين عن أناس من ملّة الإسلام، كفروا بعد إيمانهم حسب منطوق القرآن، فإن تابعنا الفقه التقليديّ على أن الإيمان هو الاعتقاد (مع أن هذا مناف لشرط اللغة العربية، إذ معناه هو العقد الاجتماعي الذي ضمّ الملل جميعها في عهد الرسول، والكفر هو الخروج على هذا العقد)  فأهل الملل الأخرى لا يدخلون في حكم المرتدين مهما فعلوا، ولا ينطبق عليهم “حدّ الردة” المفترض (نذكّر بأن م يسمّى “حدّ الردة” لم يطبق على الأشخاص المذكورين في الآية)، وأمّا إن أرجعنا الفهم للغة، فأهل الملل الأخرى من غير الإسلام ومهما كان اعتقادهم هم مؤمنون ما داموا غير محاربين لدولتهم، بل وإن المتنطعين لقتل الناس باسم الإسلام هم الكفّار في هذه الحالة!

وحادثة “أما الرحمن، فما أدري ما هو؟ ولكن اكتب: باسمك اللهم كما كنت تكتب” كفيلة بتوضيح أن المسلمين لم يستعلوا في مسألة فرض تصوّرهم عن الله على غيرهم، بل تنزّلوا على رأي خصومهم، وبينهم حروب وحروب، فكيف بالجار، وشريك الوطن!

أما باب معاقبة من يستهزئ برموز الدولة الدينية والمدنية وسواها، بكونه آذى شعور الجماعة، فهو مقرّ شرعا، ومرجعه وليّ الأمر وقضاؤه في تحديد العقوبة، بعد أن يتأكدوا أن الجريمة واقعة بالفعل، مكتملة الأركان: الماديّ والمعنويّ والقانونيّ. ولا أظنها واقعة في حالة هذا الرسم.

ثمّ ألا ينبري فقهاء دائرة الإفتاء لتبيين أمر جلل للناس، وتعليمهم أن الله لا يجوز في حقه التصوير رسما أو لفظا، فإن كانت صفحة رسومات قد صورته رسما، فهي قد تابعت من صوّروه لفظا من غُلاة المجسمّة من أهل الحديث! وأن من سائر المذنبين في هذه القضية من شوّهوا صورة الإسلام بأفعالهم وإرهابهم المرتبط بالحور والنكاح والخمر وما إلى ذلك مما استغفل به شباب المسلمين حتى أتوا بكل ما ينقض إسلامهم، فلم يسلم أحد من لسانهم أو يدهم! وهم كانوا بخيالهم المريض عن الله كانوا موضوع الرسم الذي رسمته صفحة ساخرة، وليس الكاتب الذي تدور حوله الجعجعة!

  • صورة للتعليقات المعتدلة نسبيا على منشور دائرة الإفتاء:

Untitled-1