عرضت المحطّة المعادية الناطقة بالعربية، (الجزيرة) في قطر، على قناتها (الجزيرة مباشر)، جلسة استماع في مجلس العموم البريطاني حول مفهوم “الإسلام السياسي”، وشارك فيها عدد لابأس به ممن لا نحب ذكر أسمائهم من الإسلامويين البارزين، لاسيّما التابعين لجماعة “الإخوان المسلمين”، وقد ورد فيه ردود صادمة للعامة حول رأي المشاركين من الإسلامويين فيه حول حرية الإلحاد، وحرية الشذوذ، وخرافية مفهوم الخلافة الإسلامية، وغيرها من الغرائب.
سطحية المشاركين لافتة وهذا غير خافٍ على من يسمعهم، لاسيما من أعضاء الجلسة في الجانب البريطاني، وظاهر لكل من يرى الجلسة أن الجانب البريطاني نظر إلى الإسلامويين بوصفهم زئبقيين، زلقين، يحاولون التملص من كل ما هو عميق، يكتفون بترديد العناوين التي يرونها تلقى ترحيبا عند الغرب، وقد نوّه البريطانيون غير مرّة، بدبلوماسية مؤدبة، إلى أن ما يسمعونه يمثل تغيّرا كبيرا فيما يعرفونه حق المعرفة من آراء الإسلامويين.
قبل مقاربة ما حملته لنا جلسة الاستماع من مفاجآت، لابدّ لنا من توضيح مفهوم سيولة الإسلام، ويمكن استغلال المثال الذي سكّه المفكر العروبي ساطع الحصري حول العروبة، ونقله الكاتب مؤمن المحمدي ليكون حول الإسلام، والمثال يتلخص بالنظر إلى المفهوم الممتدّ في الزمان والمكان كأنه نهر عظيم، نهر النيل مثلا، فاختراق النهر للآفاق بروافده وفروعه، يشابه اختراق المفهوم للزمان والمكان، وكل من يقف على جزء منه يسميه نهر النيل، فنهر النيل لابن الصعيد مختلف عن نهر النيل لابن القاهرة، وكذلك لغيره شمالا وجنوبا، وبعض فروع النيل لها أسماء مستقلة، وبعضها يبقى اسمه نيلا، وبعض روافده يحمل اسمه، وبعض روافده يعدّ نهرا آخر غيره، وكذلك فالمفاهيم العابرة للزمان والمكان، تحمل هذه الخاصية من التعددية في النظر إليها، ولهذا فبعض فروع الإسلام تحظى بإجماع حول تسميتها، وبعضها يُعدُّ خلافيا.
السيولة المفاهيمية هنا، مفهومة في إطار بحثيّ أو حتى مجتمعيّ، لكن هل تبرر بأي صورة مراوغة ابن القاهرة عند سؤاله عن تلوّث النيل، بهربه إلى الإجابة حول النيل في الصعيد الجوّاني! في الحقيقة لا يمكن لي أن أرى ردّه تحت شيء غير الوقاحة، والزئبقية واستغباء السائل، وهذا بالضبط ما فعله أعضاء جماعة “الإخوان المسلمين” في هذه الجلسة.
الذي فعلوه هو الهرب إلى إسلام غير إسلامهم، إسلام مختلف عن الذي هاجموا به جيوش دولهم، وحاولوا تغيير الدساتير به، واستباحوا به الأعراض، وسفكوا به الدماء، وأسسوا به القاعدة، وغيروا من أجله المناهج الدراسية، وطعنوا باسمه بني جلدتهم في ظهرهم مرّات ومرّات، وتباكوا عليه بقيئهم قصص المظلومية الإسلامية في كل نادٍ من قبل.
فغدا فجأة في عرفهم، الإلحادُ مباحًا إسلاميّا، وبدّلوا بذلك قولا غير الذي قالوه من قبل، وغدا الشذوذ الجنسيّ حريّة شخصيّة، وهذا غير قولهم الذي قالوه من قبل، وغدت “الخلافة الإسلامية” فكرة غير إسلامية، وحشرت مفاهيم حديثة في الإسلام على أنها قيم أساسية فيه، فالمواطنة والحكم الرشيد والديموقراطية باتت متبنّاة إسلاميّا بصورة قطعية لا حيود عنها.
كل هذا لو قيل هنا بين جماعتهم، لنظروا لقائله شزرا، وسنّوا سيوفهم لذبحه، ثم سحلوه في الشوارع، كما سحل قائد ديني شيعي مصريّ، قبل يوم من خطاب رئيسهم، محمد مرسي، ولم يذكره أو يستنكر هذه الفعلة على جمهوره من الإسلاميين، لكنه الآن على ألسنتهم أمام مستعمرينا سابقا، ومستتبعينا حاليا، لإقناعهم بكفاءتهم ككلاب للمحتلّ.
وليس في واردي نقاش ما قالوه بالتفصيل، وقد يراه السلفيون فرصة لابتلاع جسمهم الجماهيري، وتحويله للسلفية، وقد يستعينون بالموقف السعودي “الصلب” حول الشذوذ في الأمم المتحدة، وهو محفل أكبر من المحفل الذي خضعوا فيه وأظهروا خلافَ ما يبطنون.
لكن لا أستطيع أن أتجاهل أن هذه الانتقال لم يكن انتقالا بين إسلامين، يعني لم يقفزوا من المقولات السنية إلى المقولات الشيعية، أو من المقولات السلفية إلى المقولات المعتزلية، مرة واحدة وحسب، لنعدّ هذا انتقالا في رأي “الإخوان” من كذا إلى كذا، في الحقيقة هم انتقلوا من الإسلام الإخواني المعروف للجميع، وقفزوا إلى سيولة المفهوم الإسلامي دفعة واحدة، دون أن يقرّوا بها، فكان شاهد هذه القفزة تنقلهم اللحظي بين نسخ كثيرة من الإسلام، دون تأصيل موقف يسمح بهذا التنقل.
انتقالهم لمقولات خصومهم العرب، من مسلمين عَلمانيين، وقوميين ويساريين، ممن تصدوا لدراسة الإسلام، والتأصيل لموقف فكري منه، وكيفية التعامل معه كحامل ثقافي مهم في الخبرة العربية، بطريقة بائسة تتنقل بين المقولات الفرعية لدارسين مختلفين، بمشارب فكرية مختلفة، هو انتقال مخزٍ، الدافع وراءه هو رضى السيّد الغربي عن المستتبع العربي.
بالله إذا كانوا معتقدين حقّا بما قالوا، وأنا أتحدث هنا عن مهاربهم من وصم الإسلام بالإرهاب، بتبنّي آراء طال ما حقروها، وشنّعوا عليها، فما الذي منعهم أن يقفوا كقادة للرأي الإسلامي ليعلنوا موقفا واضحا، ضدّ سفك الدماء في سوريا والعراق ومصر وليبيا والصومال؟ لماذا لم يقوموا بواجبهم الدعويّ والإصلاحيّ الذي يرونه منوطا بهم بتوعية المسلمين حول هذا؟ لماذا تقتصر دعواهم على “توعية الغرب”؟ أقول هذا مع أنني أعلم أنه في الحقيقة تضليل وقح.
هل تمّت المراجعات بطريقة تأصيلية داخل العقل التنظيمي الإخواني؟ في الحقيقة يظهر من تباين هذه التنقلات وعدم اتكائها على تأصيل واضح وهلهلتها أنها ارتجال كامل، لكنها تفضح أمورا خطيرة:
- إن كبراء الإسلامويين غير جاهلين بالسيولة المفاهيمية فيما يتعلق بالإسلام، وإنهم كانوا ينافقون المجتمع بادّعائهم مواقف صلبة فيما يخص كثيرا من هذه القضايا.
- إن الجسم الإخواني يحاول الحفاظ على نفسه والوصول إلى السلطة على طريقة (الجين الأناني)، أي أنه يمكن أن يبدّل أفكاره ومفاهيمه كلها مقابل هذا البقاء، حتى لو تبنى أي نقيض للإسلام.
- إن أحدا من الإسلامويين لم ينشر هذه الآراء في أدبيات الجماعة، ولم يخاطب بها العرب.
- إن كبراء الإسلامويين واعون لما يدفع خصومهم إلى ما يعيبونه عليهم من سلوكات.
- إن سيطرة الإسلامويين لا تعني أي تبديل إلى الأفضل في الحياة حول ما يخص القضايا المصيرية، فهم مثل سلفهم الليبرالي العربي المنخور فسادا والمتّسم بالزئبقية عقيدةً له.
- إن سيطرة الإسلامويين على الحكم تعني المزيد من منافقة العامة على جهلهم، وهذا يعني المزيد من الدماء.
- إن الإسلامويين بما همّ ليسوا سوى طينة طرية تتشكل بيد الغرب، لكنها تجف تحت الشمس العربية، وتتحول إلى حجارة تسقط على رؤوسنا لتقتلنا.
هذا كله يعني شيئا مهما إذا وضعناه أمام آية (أشداء على الكفار رحماء بينهم) وهو أنّ هؤلاء ينتمون للغرب، فهم رحماء في ما يخصه، وأشداء علينا نحن، وهكذا فأم الجماعات الإسلاموية وهي “جماعة الإخوان” هي في الحقيقة أداة غربية، ربما لم تكن نشأتها الغربية واضحة، إذ إن هذا يعني حرق ورقتها أمام الجمهور العربي، لكنها الآن أداة غربية بوضوح.
السيولة المفاهيمية للإسلام حقيقة، يجب أخذها في الحسبان عند فهم التاريخ والواقع، وعند التخطيط للمستقبل، لكن هذا في الفهم، بيد أن المقولات الفكرية الناتجة عن هذا الفهم يجب أن تتمتع بالوضوح، ويكون القول هو هو في كل مكان، لا يختلف باختلاف المنبر وكأنه جلد زاحف لزج متبدّل اللون.
ثم إن نقل الجزيرة لهذا الحدث يذكرنا بتبني المال القطري، الذي هو ذراع سعودية، للمشروع الإخواني والحرص على صيانته، وتلميعه، لا لكي يحكم بلدانهم، بل ليدمّروا به منافسيهم على النفوذ في الوطن العربي، وليبرروا بهم سلوكهم أمام جماهير بلادهم، أو دواجن مزارعهم، وقد يلقحون بالنسخة الإسلاموية المعدلة جينيا في معامل الغرب، وهّابيتهم كي لا تكون وحش فرانكشتاين الذي يأكل راعيه!
لكن الأبرز في هذا الحدث كله هو أن الشخصية الإخوانية شخصية مستتبعة بالكامل، مستعبدة بالكامل، خليقة بأن تتنكر لرموزها بسرعة، فإن كان ثمة جزء إرهابيّ صلب هنا، فالقمة النامية لهم تشبه عبّاد الشمس الذي يدور حيث تدور، لكنهم عبّاد الغرب في الحقيقة.
هامش:
رابط الجلسة على قناة الجزيرة العميلة نضعه للتوثيق، ونهيب بالقارئ ألا يضغطه لكي لا يزيد عدد زوار قناتهم على يوتيوب: https://www.youtube.com/watch?v=Sqtmi61Dnsg&feature=youtu.be