قال عمرو بن معد يكرب الشعر قبل بعثة محمد بن عبد الله، وكان يصف معركة كادت فيها نساء قبيلته أن يؤخذن سبايا، ففررنَ من أرض المعركة، إذ يذكر محبوبته وابنة عمه لميس فيها فيقول عنها: “وبدت محاسنها التي تخفى وكان الأمر جدا” فما علاقة محاسن لميس بوطيس المعركة؟ وما علاقة ذلك بالآيات التي يستدل بها الإسلامويون على وجوب الحجاب؟
السبي من أبواب الرق، إذ كان القوم إذا انتصروا يَسبون بنات شرفاء الأعداء إمعانا في إذلالهم، ولأن (لميس) من حرائر القبيلة وشريفاتها نسبا، خافت على نفسها فتنكرت بزي الجواري وكشفت نحرها وأزالت غطاء رأسها، كعادة الجواري في ذلك الوقت، وهذا العرف كان قبل الإسلام واستمر بعده، وهو عرف عام على الذكر والأنثى، فالحُرّ والحُرّة لا يكشفان رأسيهما، والعَبد والأَمَة يمنع عليهما أن يغطيا رأسيهما، فهي كانت تحاول أن تظهر على أنها جارية كي لا تسبى.
وكذلك ورد في القرآن (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) والمعنى هنا أن الطلب أولا على سبيل المندوب إذ هو ضمن قواعد أصول الفقه أمر لا يعقبه بيان عذاب تاركه، وهذا لا يرقى ليكون واجبا، ضمن المنظومة الفقهية التقليدية، بل إنه طلب غير مباشر يأتي كوصية للنبي، وليس للنساء مباشرة، مع بيان العلة على سبيل (ذلك أدنى) أي أن الصيغة العربية واضحة في كونه من باب الاستحباب، وهو متعلق بعلّة يزول الطلب بزوالها، فماذا هي هذه العلة وماذا هو الأمر أصلا؟
الطلب هو وضع الجلباب وهو قماش يضم على الرأس والكتفين، وهو زي الحرّة دون الأمة منذ الجاهلية، وهو كمثل الشال، وعلة الطلب هي “أن يعرفن فلا يؤذين”، فهل يكفي أن يعرفك الناس لكي يمتنعوا عن أذيتك؟ والجواب المدوّن في الكتب هو التقدير (أن يعرفن أنّهن حرائر لا إماء _جواري_ فلا يؤذّيْن كما تؤذى الأمة الجارية التي لا تجد من يدافع عنها)، والفقه صريح في ذلك بقولهم: إن عورة الجارية كعورة الرجل، وعورة الحرة هي كذا وكذا، فهذا هو الأمر على سبيل المستحب مع بيان العلة.
والسؤال للكهنة هنا: هل ما قررتم من عورة المرأة هو عورة بكونها حرة أم بكونها أنثى؟ فإن كانت العلّة هي تمييز الحرّ عن العبد، وكان الأمر عاما على الرجال والنساء، إذ كان الرجل الذي يخرج حاسر الرأس تسقط عدالته ولا تقبل منه شهادة، فكيف أسقطتم الأمر عن الرجل وأبقيتموه على المرأة؟ أم أن الدين على هواكم؟
وعورة الأنثى بكونها أنثى هي عورة الأمة الجارية (وهي مسلمة) وهي عورة الرجل أيضا وهي السوءة التي يعرف الإنسان منذ الطفولة المبكرة كونها عورة لخروج الفضلات منها.
أما الآية الأخرى فهي لا يفهم منها سوى طلب مقصد العفة في اللباس باجتناب الزينة (إلا ما ظهر منها) أي تجنب الإغواء المتعمد، وهو كذلك أمر متعلق بالثقافة، ومعروف ما هو الجيب الذي تضرب عليه النساء الخُمُر، وإنما هو نحرها _الصدر فوق الثديين_ تغطيه بقماش فتخمره أي لا يظهر، والاستثناء إلا ما ظهر منها واضح أن هناك زينة تظهر يغضّ عنها الرجال أبصارهم، لكن أتباع الموروث يريدون خيمة سوداء لا يظهر منها شيء، وبذلك انطلقت شهواتهم التي لا مفرّ من وجودها، فيما بين الجنس الواحد فشاع الشذوذ الجنسي في مجتمعات الوهابية كما يعلم الجميع، فعن أي لثام وقناع وحجاب يتحدث الإخوة؟
وبعد، فإن الشهوة في علم النفس متعلقة بعامل الخيال (فانتازي) فإذا اختفى هذا العامل زالت الشهوة ولو كان الاثنان في الفراش، فإذا ذهبت تغطي من أهلك كل ما رأيت نفسك تشتهيه في النساء، وأنت ابن بيئة مريضة تمنع الاختلاط انتهى بك الأمر أن تشتهي سماع اسمهن أو تشتهي الرجال! وفي البيئات الشعبية يتحفظ الشاب على ذكر اسم امه واخته، لهذا السبب.
أما الحجاب فهو مثل الحطة أو الغطرة للرجل هو زي تقليدي عرفي أقرّه الإسلام في بيئته، ولما خرج عن هذه البيئة لم يحمل معه مثل هذه الأوامر وهذا ثابت لكل من قرأ كتب التاريخ وعنده تصوّر واضح لحال المجتمع الأموي والعباسي والأندلسي…إلخ، وهو إن أقحمتموه لأن يكون هو ما تأمرون به النساء اليوم، فهو لا يعدوا أن يكون على سبيل المستحب، للحرائر في زمن العبودية، وهذا ما لا يخبركم به شيوخكم لسبب سأفضحه.
السبب في تكريس الكهنة لهذا الأمر هو أنهم يتجنبون أي شيء يثير عليهم العامة، وهم يطلبون الشهرة والحظوة بين الناس، فكيف سيخبرونهم أن مفاهيمهم للشرف فاسدة ويسمعون الناس ما لا يريدون سماعه! لذلك أيضا لا يتعرض الكهنة لمسألة جرائم العار، ولا يبيّنون للناس أن عقوبة الفتاة إن زنت كعقوبة الشاب (حتى في المنظومة الفقهية المختلّة) وأنه لا يحل بعد الجلد أن يضيق عليها أهلها في شيء (والجلد عقوبة ذات بعد زماني ومكاني لا يمكن تعميمها لكن كلامي فاعل حتى عند من يعممها)، وقد افتروا حديثا على الرسول فقالوا عنه: إنه قال: (لا تدخل امرأة النار إلا دخل معها زوجها وابنها وأبوها وأخوها) وهذا مردود بمنطوق القرآن (ولا تزر وازرة وزر أخرى)، لهذا أوجه خطابي لكل مؤمنة:
أختي الكريمة إن التزامك بهذا الزي لا يعدو أن يكون كالتزام جدك بحطته، وجدتك بشالها، وعليك أن تفكري: هل من يتكلمون عنك بطريقة “تعرضين بضاعتك” و”عفافك في حجابك” بشر أسوياء أم أنهم حقيقة منحرفون! تخلصي منهم، لأنهم يحسبونك فيهم بمجرد أن تلبسي هذا الزي التقليدي، ويبدأون بقيء المواعظ المستفزة، فذلك أدنى أن تُعرَفي أنك حرّة تستطيعين الدفاع عن نفسك وتملكين أمرك فلا يؤذيك هؤلاء المهووسون بالجنس، فإنك لتعلمين كيف يغتصبون المرأة باستغلال خوفها من الفضيحة، فلو ظهر لهم أنك حرّة تفقأُ عينَي من يتحرش بها جسديا أو لفظيا أو وعظيا (وهذا تحرش موجود وحقيقي _ راجعي فيلم “الحدق يفهم”) لكفوا عنك ألسنتهم وأيديهم التي لم ينجح الإسلام في كفها.
عندما يقيء أحدهم موعظة كهذه الأجدر بك أن تريه عكس ما يطلب، لكي يتعلم أنك إنسان حرّ فاعل في المجتمع، وامرأة عاملة تشمر عن ساعديها وتدخل أي ميدان يروق لها، وإن رأيت الحفاظ عليه تقليدًا فافعلي، لكن لا تحملي معه الضعف الذي يريدون الأنثى عليه، ولا نظرةً تجعلك فوق الآخريات اللائي رأين غير رأيك، فأنت مثل غيرك، إنسان اختار زيّا له، هذا إذا كان من اختيارك بالأصل، فإن كان فرضه عليك التخويف الدنيويّ فحبذا لو حررت نفسك اقتصاديا واجتماعيا، وإن كان فرضه عليك التخويف الأخرويّ فوجب عليك تحرير عقلك.
انعكست رمزية الحجاب منذ مدّة، وبات الآن يبدو كأنه قيد من القماش، ليس خليقا بالحرة في هذا الزمن، مع أنني لست ضدّه بالمطلق، لكن هذا ما يستدعي الملاحظة، فانظري جيدا حولك قبل أن تقرري ارتداءه اليوم، ومهما كان قرارك فكري في الأمر كل يوم قبل خروجك.