ضدّ الوعظ

كلنا نعرف قصة العربي الذي سرق لصٌّ حصانه بعد أن نزل عنه لينقذه من الموت عطشا، فلما أدبر اللص بالحصان هاربا، صاح الرجل باللص: ناشدتك الله ألا تروي قصتي هذه معك لأحد، حتى لا تموت النخوة بين العرب! لكن ربما يغيب عنا المفهوم الذي أدركه هذا العربي بمجرد أن انتقل من الخاص إلى العام.

المفهوم ذاته حاضر قرآنيا، فآية سورة النور (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ١٩)، تحمل ذات الفكرة في المعالجة القرآنية لحادثة الإفك، فالذين تولوا أكبر الإثم في هذه الحادثة أي من اختلقوها يصفهم القرآن بأنهم يحبون أن تشيع الفاحشة، وهؤلاء غير الذين تلقوا الحديث بألسنتهم دون أفهامهم ودون أن يفكروا في أثر القصة على المجتمع، ودون أن يحركوا أذهانهم بين الخاص والعام، وسبق هذه الآية بقليل آية تهدي لهذه الحركة إذ قال: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَٰذَا إِفْكٌ مُبِينٌ).

واليوم نسمع الكثير من جلد الذات في كلمات متداولة من مثل (مواعيد عربية/ ماتت الرجولة/… إلخ) نؤكد هنا أننا نفهم الدافع الذي يكون أحيانا كثيرة ساميا وراء هذه الكلمات، وهو الغيرة على حال الأمة، والشكوى من دروس واختفاء بعض أخلاقها الحميدة، لا ننكر أن جذر تداول الكلمات ذاتها يكون في أحيان كثيرة نوعا من التطهر الأجوف، وادّعاء الأفضلية على المجتمع، لكن هلا حركنا ذهننا بين الخاص والعام، وفكّرنا أين تؤدي بنا هذه الكلمات، فإذا كنا نتداولها للحض على الأخلاق الحميدة، فهي تؤدي عكس هذا الغرض تماما.

وفي قصة طريفة يقال أنها حدثت مع الحسن البصري، مثال جميل على ما نرمي إليه، وقد أوردها الدكتور رفعت سيد أحمد في مقدمة كتابه الذي يحمل اسم القصة ذاتها (من سرق المصحف؟)، وهي باختصار شديد، أنه كان يقرأ من مصحف مذهّب له ويشرح لتلاميذه، حتى بلغ آية تتحدث عن الأمانة فاستفاض بأحاديث الرقائق التي تتحدث عن اختفاء الأمانة بين الناس حتى بكى فأبكى كلّ من حضر، ولما التفت من بكائه الذي أخضل لحيته، لم يجد مصحفه، فصرخ قائلا: كلكم يبكي الأمانة، فمن سرق المصحف!

العقل القومي الجذري الذي لا يمنعه سوء الواقع من جودة الحلم، ويسيطر فيه العام على الخاص، لابدّ وأن يمتلك خطابا مختلفا عن السائد الآن في هذا الشأن، فبمجرد التعافي من حالة التلقّي باللسان (كما يصفها القرآن) أي إعادة الكلام قبل تقليبه والتفكير في أثره، يتبين أن ذمّ الواقع بهذه الطريقة يختطف المستقبل ويحكم عليه بالفشل، إذ أنه وكما أن صورة الإنسان عند نفسه تتحكم بما سيكون عليه، فصورة المجتمع عند نفسه تتحكم بما سينتهي إليه أمره، وهذا يحتّم علينا تغيير لغة النقد الذي يوجه للمجتمع خصوصا ذلك النقد الذي يشيع في المجتمع ذاته، وحسب هذا الفهم يصبح من المنطقي كيف أن حديث الحسن البصري كان مساعدا على سرقة مصحفه أكثر من كونه عائقا في وجهها، على عكس ما تخيّل.

وقد يقول قائل وهو محق إنه لابدّ لنا من عملية النقد إن كنا نريد التغيير، فكيف لنا أن ننقد دون أن نجلد ذاتنا! والجواب هنا يكمن في اللغة، فالنقد في الأصل هو ما يقوم به الصيرفي لفصل العملة المزورة من العملة الحقيقية، فهو يفصل بين الضار والنافع، ولا يهاجم بعموميات، ويبدو أن الخلل الذي أصاب طريقتنا في الانتقاد كان وراءه نية طيبة في عدم شخصنة الهجوم، ولكن عدم الشخصنة يجب ألا يعني الفشل في التشخيص، فالهجوم يجب أن يكون موجها ضد الفئة التي تستحقه، وليس عموم المجتمع، وتجنب الشخصنة يمكن بالإشارة لهذه المجموعة من خلال سيئاتها أفعالا وصفات، لهذا كثر في كلام النبي العربي قوله “ما بال أقوام يفعلون كذا”، وهكذا بعد أن حددت جهة الهجوم ودافعه ستضمن أن هجومك فعال في هدمهم، فماذا عن بناء البديل الصحيح، وماذا عن صرعة “الإيجابية” التي يكررها علينا الإعلام ويعيد من خلفه الناس!؟

الإيجابية في الأصل هي الصياغة الموجبة للمعنى، والذين ابتكروا مصطلحها عنوا ذلك بها، لأنهم اكتشفوا أن العقل الباطن أو اللاوعي لا يستقبل أساليب النفي بالطريقة التي يستخدمها الناس بها، فقالوا قل: “سننتصر” بدل أن تقول “لن نهزم” وهكذا دواليك، ولم يعنوا بها المداراة أو الكذب أو الميوعة والتصفيق لكل شيء، مما نراه يمارس بحجة الإيجابية، وهي في ذاتها على حقيقة أمرها فكرة جيدة، لأن الصياغة الموجبة للقول تجبر القائل على الإتيان ببديل أو المساهمة في الحل، فالذي يقول: “سنظل مهزومين ما دمنا لا نحترم كذا ولا نفعل كذا”، جنح لقول سهل لا يمكن فحص صدقه، لكنه عندما يجعل قوله قولا موجبا فهو يجبر نفسه على محاولة خلق حل ما، ويكون قوله قابلا للفحص وتبيان صدقه من كذبه، فيقول: “ننتصر عندما نفعل كذا وكذا” ويمكن للسمع فورا تمييز درجة صدقية هذا القول ومنطقيته، وهو لم يزل في خانة النقد، لكنه نقد بعيد عن جلد الذات، موجه ضد سلوك محدد، وليس شتائم تلقى على عواهنها، مما يتداوله البعض للأسف بدافع الغيرة كما أسلفنا فيزدادون تفريطا.