حتمية النفاق وأشياء أخرى

نقض فكرة رجل الدين من خلال الدين نفسه.

لا ينظر الجميع للنسخ العديدة من “قانون ميرفي” على أنها ضرب من السخرية، فهو على الأقل في صيغته الأصيلة مقبول عقلا، إذ تقول (الخطأ المحتمل الحدوث يحدث) يعني أن إمكانية وقوع الخطأ وحدها تكفي لوقوعه، وهذا حقيقي فحتى الأخطاء المستحيلة تحدث أحيانا، فإننا إذا ما كنا نتحدث عن مدى زمني مفتوح، فعلينا قبول فكرة أن الأخطاء الممكنة ستجد فرصتها للحدوث على المدى الطويل، قانون ميرفي الذي يسخر من حسن تدبير الإنسان يعمل على كل ما هو إنساني، فماذا عن الإلهي؟ ماذا عن الديني؟ ولأكون أكثر تحديدا ماذا عن الإسلامي؟!


في آية (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ) ٤ الملك، وآية (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) ٨٢ النساء، نجد لغة الإله القادر، “الصانع الأوّل” ذي الصنعة المتقنة، الذي يحول علمه اللامحدود وقدرته اللامحدودة دون احتمال الخطأ وبالتالي دون حدوثه، والجدال بين المصدقين والمكذبين حول هذا جدال عقيم، فالمؤمن اختار أن يرى حكمة وراء أي أمر خارج عن إرادته إذ يدخله في إرادة الله التي لا تحتمل إلا الخيرَ تفسيراً لها، والملحد لا يرى وجاهة في هذا، حتى أن أحد الملحدين قال: “إذا كان الإله موجودا فهو ليس خيّرا” فهو يحمّله المسؤولية عن كل الشر الموجود في العالم، حتى وإن كان فقط باختياره عدم التدخل ضد الشر الإنساني مع أنه يملك القدرة على ذلك، من أجل كل هذا سنترك التفكير في صنعته إلى التفكير في المنظومة الإسلامية، التي يفترض كثير من المؤمنين أنها من عند الله حصرا، فإذا كان هامش الخطإ فيها محتملا، وهنا يكفي الاحتمال، فلنا أن نعيد التفكير في كثير من أفكارنا المسبقة.

الفردي والجماعي والإلـٰهيّ

شأن الحياة لكائن اجتماعي كالإنسان شأن أي عمل جماعي، فنحن هنا على هذه الأرض جماعات لها أعراف وقوانين، تحدد واجبات الفرد “وحقوقه” (حقوق الفرد أي واجبات غيره تجاهه وهذا يعني أن اكتفاءنا بذكر الواجبات للفرد المطلق أكثر من كاف)، ومع أن هذا من المحسوس الذي لا حاجة للشاهد فيه إلا أننا نورد من القرآن هذه الآية توصّلا لعقل “الإسلامي” (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ١٣ الحجرات، ومعنى لتعارفوا هنا ليس كما يفهمها ذو العربية الفاسدة أي ليتعرف كل منكم إلى الآخر! بل إن المعنى هنا أن تقيموا أعرافكم فيما بينكم، أي تتعارفوا على قوانين تنظم حياتكم كجماعات، وفي أي عمل جماعي يكون العمل جماعيا إذ الناتج محكوم بإتقان الجميع لدوره، ولكن الحساب يكون فرديا إذ تقصير الفرد الواحد يؤثر على المجموع كله، ولأن عقل “الإسلامي” يريد شاهدا قرآنيا على كل صغيرة وكبيرة فلا حرج من ذكره ما دام حاضرا، (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) ٩٥ مريم، فإن ضممنا هذه الآية للآية التي ذكرناها آنفا، فقد أصلنا لهذه الفكرة، أي التكليف الجماعي والحساب الفردي.

ولأنّ الفرد المؤمن يخشى الحساب الفرديّ، فقد سادت فكرة العلاقة المباشرة بين العبد والإله، وهذا حميد مادام في حدود فكرة المسؤولية، لكن الناس تجوّزت فيه من جهة عجيبة، وهي فهم أن كل ما هو خارج نطاق سيطرتي كفرد فهو من قضاء الله عليّ! وهذا قول فاسد ومردود بالحس وحده، فأنت ترى قدرتك على التأثير في حياة غيرك، بل وقدرتك على إزهاق روحه، فهل ما تقدره أنت هو قدر الله! ولكننا نورد ردّه من جهة القرآن لأننا نخاطب قوما يكذبون عينهم ويصدقون كلام المتاجرين بالأديان، فقد بني الخطاب القرآني على مخاطبة الجماعة، (يا أيها الناس) و (يا أيها الذين آمنوا) وما إلى ذلك، والقول بأن هذا لا يحتمل معنى الخطاب الجماعي هو طعن في فصاحة القرآن، فهو اتهام بالعيّ، وقد رأينا كثيرا من الفلسفات والأديان تخاطب الفرد بشكل مطلق فيعمم الخطاب على كل الأفراد، وهذا تحتمله العربية، فلا مبرر لفهمه بطريقة اعتباطية، فأما من أراد أن يجادل في هذا فلينظر لفلسفة فرض الكفاية، وهو الأمر تتصدى له كفايته من الناس، فيسقط عن المجموع، فإذا لم تفعل كان الجميع آثما باستثناء من بذلوا وسعهم!

وهناك مدخل آخر لفهم هذا المعنى، وهو تنزيه الإله عن “الشرّ” (الأصل هو الظلم وهو وضع الشيء في غير موضعه، فالشر مجرد صيغة تفضيل إذ تقول هذا شر من ذلك)، فهذا ملزم لنا بقبول فكرة الإرادة الإنسانية، القادرة على فعلها والمتصرفة به كامل التصرف، والتي تحمل مسؤولية ما نراه من ظلم في العالم حولنا، بعد أن استخلف الله الإنسان في الأرض (الاستخلاف عام لكل البشر ولا علاقة له بفكرة ما يسمى “الخلافة”)، فلا يحمل مسؤوليته الله. ذلك عدا عن أن ما يدرّس على أنه سادس ركن من أركان الإسلام (الإيمان بالقدر خيره وشرّه) مستحدث في الإسلام ولا أصل له قرانيّا، وساقط عقلا كما وضحنا، بل وهو ساقط لغة فالقدر هو ميزان الخلق ولا علاقة له بالأمر المُبرم سلفا، وفوق كل ذلك هو مردود قرآنيا فأصل الفكرة هي “وحدانية الخالقية” والقول بأنه لا خالق إلا الله، بينما نجد في القرآن نصا صريحا يقول (… فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) ١٤ المؤمنون، وهذا كفيل بإسقاط أصل فكرة “الإيمان بالقدر خيره وشرّه” التي لم ترد في آية أركان الإيمان (… وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا) ١٣٦ النساء، وقد استفضنا في هذا لأهميته من جهتين، جهة فصل الجماعي عن الإلهيّ، وهو موضوعنا في هذه الفقرة، وجهة أنه مستحدث من القوم الذين نتناولهم في هذه المقالة ونتناول حتمية نفاقهم، وسيتضح هذا في الفقرات التالية.

ما تركه الله للجماعة

العالم بالتاريخ العربي قبل الإسلام، يقطع بما لا شكّ فيه أن الدعوة الإسلامية أقرّت عُرفَ القوم، وحاربت بعض جوانب فساده، وحلف الفضول (جمع فضل) مثال جيد على ذلك، ومن حاول أن يردّ القول بأن هذه شريعة العرب بقوله أنها مما تبقى ديانات بائدة، جاهل بالتاريخ فنحن نعرف أول من قضى بقطع يد السارق، وأول من قضى بقانون الإرث، وأول من قضى بميراث الخنثى، وغيرها من الأحكام التي صادقت عليها الدعوة الإسلامية، ونعرف أن أول من قضى بذلك لم يكن نبيا ولا رسولا! عدا عن أنه إنه ورد في الأثر (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق: حديث مرويّ من عدة طرق)، ودعك من ذلك كله فالقرآن صريح أيضا، فإذا ضممنا آية (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ …) ١٩ آل عمران، إلى آية (… لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَة…) ٤٨ المائدة، تبين لنا أننا يجب أن نفرق بين في المنظومة الإسلامية بين الدين والشريعة، فأهل الكتاب حسب الآية كانوا مسلمين وحسب الآية الأخرى كانت لهم شريعة أخرى غير الأعراف العربية التي أقرتها الدعوة، وطوّرتها.

ولاية الأمر والقضاء و”الفقه” وغيرها من الشؤون السياسية هي من فروض الكفاية في الإسلام، (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) ١٢٢ التوبة، وهذه الآية وردت في سياق الحديث عن سياسة دولة المدينة (يثرب)، وعربيا الدين هو ما يدان له ويدان به وما له سلطان على الناس، ومن الدين بمعنى القرض، والمدين بمعنى العبد المملوك، ففي الزمن الذي لم يكن فيه دولة حديثة كان هو الدولة ذاتها، ونظام الدولة العربية القديمة هو الدين، والجماعة لها الحق بتقرير شرعتها التي تحقق من خلالها مقاصد الإسلام حسب مقتضيات الزمن، وكما يقر القرآن إسلام كل الأنبياء وكل من تبعهم من أقوامهم، رغم أن لهم شرائع مختلفة، تعارفوا هم عليها، ففهم القرآن في إطاره الزمكاني يقرر ما ذهبنا إليه، ومن قال بإطلاق القرآن وإخراجه من تاريخيته زمانا ومكانا فهو يناقض أنه محدث (ذكر من ربهم محدث)، ويناقض كل فهم لآيات تتعلق بحوادث وأشخاص ولا يمكن سحبها على كل زمان ومكان، بل وإنه ليجعل القرآن معتمدا على النصوص التاريخية الأخرى، وهو بذلك يعود للمكان ذاته الذي انطلق منه، ولنا توصلا لعقل الإسلاميّ أيضا أن نذكّره بالأثر (أنتم أعلم بأمور دنياكم: حديث)، ويكفيه حادثة نزول جيش المسلمين دون آبار بدر، أو آية (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) ٣٨ الشورى، أو آية (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) ١٥٩ آل عمران، فهذا وغيره الكثير دليل على تكليف الجماعة بالتشريع بما لا يناقض القرآن ولا يتصادم معه، أي تكليف القائمين بفرض الكفاية في شأن السياسة.

الدين والسياسة

من استغرب نتيجة الفقرة السابقة يتجاهل التاريخ العربي “الإسلامي”، لأنه لو طالع سبب نشوء الفرق والمذاهب وعلاقة ذلك بالسياسة، لعرف أن الفقه تابع للسياسة وليس قاضيا عليها، بل الحجة ضده حاضرة من تاريخ فرقته هو من أي فرقة كان، فعمر بن الخطاب شرّع بما رأى فيه مصلحة المؤمنين ( إلغاء عطايا المؤلفة قلوبهم، وجمع الناس لصلاة التراويح، وتعطيل حد السرقة في القحط، وهناك أمثلة كثيرة)، أما عند المذاهب بعد ذلك فمنهم من اضطر للقول باستمرار الوحي للأئمة وغير ذلك من ترخيص التشريع لولي الأمر، ووراء قصة نشأة كل مذهب أو شيوعه قصة سياسية، لا يسعنا المجال لبسط التفصيل فيها.

الفصل بين الدين والسياسة (أي بين سياسة الفقهاء وسياسة الساسة) بدأ في وقت مبكر قبل فكرة العلمانية، وهذا بسبب سيطرة أهل مذهب ما سياسيا على أهل مذهب آخر، مما أدى لازدواج المرجعية، فحدث هذا الفصام، ولو تبنت أي دولة عربية (نظام ديني قديم) خطابا جامعا يردّ التشريع للناس ويشاورهم ويقيم فيهم دولة استئذان كتلك التي قامت في المدينة “يثرب”، لاختفى هذا الفصام، ولعرفنا أن النقص والتضارب و”إمكانية الخطأ” (إحالةً على قانون ميرفي) مما يعتور التشريع هو من عند أنفسنا وليس إلــٰهياً، ومن ذلك موضوعنا الذي يظهر لعين المسلم البسيط أننا ابتعدنا عنه، ألا وهو ((حتمية النفاق))، وإنما أردنا أن نؤسس لعدة مفاهيم ولم نزهد بمغانم الطريق كلما عرض لنا موضوع يمكن الإفادة فيه.

على سبيل المثال فنشأة رواية الحديث ارتبطت بحادث سياسي، هو ذاته سبب ترسيخ الفكرة المغلوطة عن “القدر” التي بيناها سابقا، والسبب وراءهما هو غلبة الأمويين، وطلبهم الناسَ التسليمَ لهم بالأمر بوصفه قدر الله عليهم الذي لا يعترضه إلا كافر! فهو قد أسقط ركنا من أركان الإيمان، وكذلك ابتداع فكرة قتل المرتدّ التي تناقض القرآن الذي يذكر المنافقين ويقول أنهم كفروا بعد إيمانهم ثم يقصر وعيده على عذاب الآخرة ولا يأمر بقتلهم، وإذا ضممنا هذه لتلك، عرفنا كيف تمكنوا من التشريع لنفسهم حتى أباحوا قتل خصومهم السياسيين.

الكهنة (الرهبان والعلماء والشيوخ)

ورد في القرآن آية تنفي وجود أصل لفكرة الراهب أو رجل الدين في الأديان السابقة (… وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ….) ٢٧ الحديد، وما يحتج به أصحاب العمائم اليوم من “سؤال أهل الذكر” هو آية تستشهد بما عند أهل الكتاب من أخبار الأوّلين (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) ٤٣ النحل و ٧ الأنبياء، وهي لا تتحدث عن طبقة مختصة بالعلم اللاهوتي من المسلمين! ومثلها مما يحتج به ما قدمنا به من آية فرض الكفاية فيما يخص الفقه والتشريع، وسياقها يمنع أن تكون تختص بطبقة اللاهوتيين، ومثلهما (… إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ …) ٢٨ فاطر، فهي ناهيك عن كونها أتت في سياق التأمل في خلق الله، مما أذهبَ البعض لإلصاقها بعلماء الطبيعة، فمعناها أن الذين يخشون الله فأولائك وحدهم من علموا، فأسلوب التوكيد والحصر الواضح في أداة (إنما) تجعل المسلمين من غير العلماء لا يخشون الله، حسب الفهم المغلوط، وهكذا قد نتتبع كل ما بررت به طبقة كهنة المسلمين وجودهم لنجده سرابا ونجد الله عنده!

أما نشأتهم فهي كانت كما أسلفنا سياسية بامتياز، ولو كان للساسة درب أخرى أنجع للسيطرة على مجاميع الناس لما رأينا أي كاهن في الإسلام، فكل نظام أنشأ منظومته الفقهية التي قام عليها كهنته، أو لنقل فقهاؤه، وتسميتهم فقهاء تتقاطع مع تسمية القانونيين اليوم بالفقهاء، وحتى اليوم ما زال لكل نظام فقهاؤه إن كانوا ذوي صبغة دينية أم قانونية تقر بدنيوية وزمكانية التشريع وتاريخيته، أما تسميتهم شيوخا فهي انزاحت من تسمية الكبير في السن، أو كبير القوم، إن كانوا قبيلة، أو كانوا صناعا (شيخ كار) أو أصحاب فن ما، أما الأغرب فهي تسميتهم بالعلماء بحيث غدا العلم هو ما يقولون، والأصل أن العالم هو من جاء بعلم، فكونه عالما بشيء ما مرهون بكونه جاء بعلم، وليس العلم ما يقوله فلان، كائنا من كان، فإذا كان القرآن يستشهد بالبرهان العقلي ويطلب منا النظر وطلب العلم لنتبين صدقه، فمن هذا الذي كان أعلى من الله شأنا حتى بات قوله مقياسا للعلم والعقل، والله يتخذهما (العقل والعلم) مقياسا لنا على صدق كتابه!!!

الكثير من المسلمين يرى أن الإسلام جاء ليحرر الإنسان من الخرافات التي تسيطر عليه من السحر والكهانة والعرافة والأصنام ومن سلطة الأعراف الفاسدة التي يقدسها الناس لأنها كانت دين آبائهم (كانت بالفعل تصلح لزمن محدد ولما انقضى الزمن صار التمسك فيها نوعا من عبادة الأسلاف “السلفية”) ومن تشرذم العرب واقتتالهم فيما بينهم وهكذا…، لكن أي تحرير هذا الذي يسلمنا من كهنة لكهنة ومن شعوذة لشعوذة! أم أن امكانية الخطإ كانت كامنة فينا نحن كبشر، فوجودها في الرسالة بحد ذاته كفيل بنفي الكمال عن الرسالة الإسلامية، فالخطأ يقع عندما يكون ممكنا، والصانع الماهر يتجنب الخطأ، فإذا كانت هذه الشريعة إلهيةً فمن أين أتاها الباطل، الذي لا يأتي القرآن من بين يديه ولا من خلفه! والمدقق فيما قدمنا أعلاه من قول، يرى بشكل جليّ أن هذا الخلل أو النقص (حسب القرآن) منوطٌ بنا نحن كمشرعين نتعارف على شؤون دنيانا وهذا لا ينفي أننا نتبع الإسلام دينا!

التدين الظاهري وحتمية النفاق

مع أن الإسلام يقرر من غير طريق أنه لا قيمة لمظهر الشخص بل المهم هو جوهره، ويتجاوز ذلك إلى أن ينفي قيمة مظهر الفعل مادام جوهره فاسدا، فمن أين دخل هذا التدين الظاهري؟ وكيف بات هناك سمتٌ مظهريّ “للمتدين” ذكرا كان أم أنثى؟ والجواب واضح في ما قدّمناه من سرد، فطبقة الكهنة كانت حريصة على تمييز نفسها، وإسباغ قدسية على كل سلوك تسلكه، ولو لاحظنا كل مظهر يدّعي الكهنة المعممين والملتحين أنه “إسلامي” لوجدنا أنه زي القوم في بعد زمكانيّ محدد، أي أنه من عرف الأسلاف، وتقديس عرف الأسلاف دون تمحييص للضار والنافع منه هو ما أتى الإسلام ليحاربه بادئ ذي بدء، فإن محصّناه فهل يصمد أم أنه يظهر فساده وبالتالي وجوب استبعاده تشريعيا.

إذا عددنا هذه المظاهر في الدين، أليس من الطبيعي بعدها أن يركب الموجة كل صاحب نفاق ورياء؟ ليظهر على أنه صاحب أخلاق حميدة من خلال ما يسمى “التزاما” و “تدينا”! ومن جهة أخرى أليس بالاعتماد على الشخص الذي يسمى زورا “عالما” في تقرير أن هذا القول علم أم لا، تبعا لما قاله هو، يكون من الطبيعي ظهور منافقين ومرائين ودجالين يحصدون ميزات السياسة والرياسة والجاه والمال باسم الدين! من خلال رهبانية “ما رعوها حق رعايتها” (إحالة على تتمة آية الرهبانية التي سبق أن ذكرناها)، والجواب على هذه التساؤلات أن هذا في أقل حالاته محتمل، أي أن الخطأ ممكن، وإمكانيته تعني حتمية وجوده أي حتمية النفاق، لاسيما مع طول الزمن واتساع الرقعة الجغرافية، فهل هذا للنظام الذي ارتضاه لنا الله دينا! وهو بما يقرره الكهنة نظام غير محكم الصنعة، مع أنهم يردون كلَّ شيء فيه للصانع القدير!

أخيرا لا يفوتنا تتمة الإشارة إلى الآيات التي تطرقت للرهبانية، فهي تتحدث عن أن أهل الكتاب اتخذوا أحبارهم ورهبانهم آلهة من دون الله، وما يقوم به المسلمون اليوم من جعل كلام الفقيه الذي يحتال على النص القرآني ويركب على المرويات الحديثية، هو المرجع الذي يفسر القرآن وكأنه الطلاسم التي تحتاج من يفسرها! ويحوله لأعراف بلغة أهل الزمان (قوانين)، وما إلى ذلك من ممارسات هي إتخاذ لهم أربابا من دون الله! والأصل أن يرد الناس ما لله إلى الله، ويتحملوا مسؤولية ما هو عليهم كاملة غير منقوصة، فنحن تقع علينا كجماعة (كل قوم جماعة) مسؤولية التعارف على قوانين نسير بها حياتنا لما فيه مصلحتنا، وليس أن نتبع طغمة تسلك سلوك الأقلية (طبقة الكهنة) وتبتزنا باسم الله فنتحارب ويقتل بعضنا بعضا لأن “ذو العمامة” أمرنا بذلك! هؤلاء وحسب سيرورة التاريخ يبدأون منافقين أو يتحولون لمنافقين مع الزمن، فهل نرتهن لهم! فإن لم نرجح كذبهم ونفاقهم دائما فلنعرض قولهم على عقلنا وعلى العلم وعلى القرآن، (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) ٢٢ الملك.