قيل إن الصاحب ابن عبّاد راقَهُ سجَعٌ عرض له، فأرسل للقاضي في قمّ قائلا: (أيّها القاضي بقمْ … قد عزلناك فَقُم)، فحمل القاضي قولَه هذا على محمل النكتة والمطايبة، وكان يقول: أنا معزول السجع، ولا أُعزل وإن عزلني الوالي. يقصد بهذا أنّه لا يرى من هو أعلم منه في تلك الناحية، وهو أولى الناس بولاية القضاء فيها. وبين من يقول القول لأنّه أحبّ جرسه وهو لا يقصد معناه، ومن يقول المعنى لأنّه أحبّه وهو لا يصدق عليه، وآخر يقول ما يقول على سبيل المجاز، فيحمله الناس على سبيل الحقيقة، وآخر يقول الحقيقة فيحملها الناس على سبيل المجاز، وآخرين سنعرض لهم، سنمرّ معا في هذا المقال على ما أسمّيه (هشاشة الشخصية العربية).
من هو العربيّ
عرّف العرب أمّتهم بأن اتفقوا على أنّ العربية اللسان فمن تكلّم العربية فهو عربيّ، كما جاء في الأثر، وحتّى لا نقع بفهم غير عربيّ لهذا القول، لابدّ أن نؤكّد على أن (تكلّم) لا تعني نطق الحروف العربية فقط، أو تعلّمها كلغة ثانية، أوثالثة، بل تعني أن تشكّل اللغة العربية وعيَ الإنسان، كلغة أمّ، فيجترح المعنى بها، وتجترح العربية في وعيه معانيها، ولك أن تلاحظ المعنى هنا، في (تكلّم) من الجذر كَلَمَ، وكلم تعني جرح، فقوة المعنى في تباديل هذا الجذر (ملك، لكم، كلم) كافية لفهم أن القول غير الواضح في معناه لا يسمّى كلاما.
وهكذا قد لا يصدق معنى (من تكلّم العربية) على كثير ممن ينطقون بالعربية كلغة أمّ، ما داموا لا يبرحون منزلة القول في لغتهم، ولا يتكلمون فيها كلاما. نكتفي بهذا دون شرح مسمّى العربية ومعنى الجذر (عرب)، وفيه مدخل آخر لنفس المعنى الذي ذهبنا إليه، فالذين لا يعرِبون قولا، وإن كانوا من قبائل عربية نسباً، لا يصدق عليهم تعريف العرب. على أنّ يُعرب التي تعني أن يُبيّن المعنى، قد تجوّز الناس في استخدامها لبيان الفعل من الفاعل من المفعول به، ولبيان المبتدأ والخبر، لكن معناها الذي نقصد أن يقولَ كلاما، أي أن يُبين المعنى الذي يريد فيجلّيه أو يخلقه في ذهن السامع.
الثالوث اللغوي
يقول يوسف الخطيب:(قد كدت أوقن من شكّي ومن عجبي … هذي الجماهير ليست أمّة العرب) والشاعر هنا يتكلّم عن أخلاق العرب التي يشتاقها فلا يراها بين الجماهير العربية، وصِلَة الأخلاق باللغة، أو لنقل صِلة الشخصيّة باللغة، قد تكلّم فيها الكثير من علماء العرب وعلماء الأمم الأخرى، حديثا وقديما، تحت عدّة أسماء لكنّ المسمّى واحد، وهنا سنتناول الشخصية العربية من جهة لغتها القائمة اليوم، ومقارنتها بما ينبغي أن يكون الأمر عليه حسب ما ندّعي، ونحاول أن نقف على بعض علل ومواضع الهشاشة في الشخصية العربية.
دعونا نتفق أولا على أن المفردة هي اسم الشيء، والمصداق الواقعي هو ما يصدق عليه هذا الاسم، والمعنى هو المصداق العقليّ أو الصورة الذهنية التي تتبادر عن المسمّى عند ذكر الاسم، وهكذا فنحن أمام ثالوث لغويّ هو الاسم والمسمّى والمعنى، أو المفهوم والمصداق الواقعيّ والصورة الذهنية، والعلاقة بين عناصر هذا الثالوث هي اللغة.
اللغة الهُلام
ولنا أن نتساءل حول الحالة الصحيّة لشخصية الثالوث (الاسم، المسمّى، المعنى)، وهل شكل المثلث اللغوي هو ذاته عند الناس؟ وهل بقي مثلثا أم أنه انسابت مفاصله وتفككت أضلاعه! أم لانت أضلاعه حتّى بات يشبه الأقدام الكاذبة للأميبا! ومنذ متى ساءت صحّته وضعف بنيانه؟
انحراف الاسم عن معناه، وخروج المعنى عن مصداقه المُراد، وغيره من أمراض الكلام، كلّه من تحريف الكلم، وقد سبق المستشار عادل السيد المسلمّاني في (التحريف والتخريف)، لتبيان عدّة أنواع من تحريف الكلم، ففرّق بين المعنى القرآني لتحريف الكلم عن مواضعه وليّ السان وتحريف الكلام من بعد مواضعه، ولن نغوص في ذلك كثيرا، غير أننا نريد أن نؤكّد أن اختلال أي ركن من أركان هذا الثالوث، يؤدي لفقد الثالوث صفته الجوهرية، أي لا يكون هو هو بعد أن يحدث هذا الخلل، وتتعدّد علل الثالوث بتعدّد علل عناصره، فالليّ باللسان على سبيل المثال هو تحريف للاسم، وهو ركن من الأركان، وهذه من طرق انهيار الثالوث.
انهيار الثالوث له أسبابه وطرقه وأعراضه، ومن أعراض فساد اللغة، ونقض ثالوثها، أن يتحاور المتحاوران فلا يصلان لنتيجة، فهما يقولان ما يقولان فلا يحدث الكلام، أي لا يَخلقون المعاني في الأذهان على صورتها المبتغاة. ومن أعراضه أيضا شيوع اللغو والهذر، وهما تعبير عن القول الذي لا ينطوي على شيء ذي بال. ومن أعراضه شيوع المغالطات الكلامية بين الخاصّة، ومنها مثلا انتفاء علاقة الشاهِد بالحُجّة، والإفراطُ في التوسّع في المثال. ومن أعراضه التي لا نستطيع أن نمرّ عليها كلّها في هذه العجالة شيوع الوهم والخرافة، إذ يتبنّى الفرد تصديق بيت شعر أو حديث أو آية، وهو لا يفهم معناها على حقيقته، ثم يختلق لها معنى آخر من المصاديق العقلية التي يعرفها، وهذا باب للأوهام الفردية والجماعية.
وكل هذه الأعراض يمكن إجمالها تحت اسم الكذب، فقد يكذب الكاذب وهو يعي كونه كاذباً، وقد يكذب وهو يظنّ نفسه صادقا، وقد تكذبه الأسماع أو الأفهام، والكذب هو نقيض الصدق ويمكن فهمه على أنه عدم مطابقة المعنى المخلوق في الذهن للحقيقة الواقعية، فاللغة الهلامية لغة كاذبة، لا تحدث الاتصال الذي يفترض فيها أن تحدثه. ولأن الشعر ديوان العرب وموضع فخرهم فإننا سنمرّ على شرح آيات في سورة الشعراء نراها ضروريّة حتى نتابع بحثنا عن العلّة اللغوية لهشاشة الشخصية العربية، وهل ألصق بالشخصية العربية من الشعر!
تفهيم آيات الشعراء
وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) (سورة الشعراء)
أمّا ما سبق هذه الآيات فكان ردّا على من قال أنّ القرآن أتت به الشياطين، فقال هل أنبّئكم على من تنزّل الشياطن (يعني شياطين الجنّ أي المردة منهم وأشدّهم ضلالةً وشطناً أي بُعداً)، وهذا معناه أنّ القرآن ينفي أن تكون الشياطين هي التي توحي الشعر للشعراء، كما ذهبت العرب، وهذا نفي من القرآن لفهم خاطئ لمصطلح (شيطان الشعر) أي ما يأتي معه من شطنٍ وشطحٍ وبعد غاية وبعد غور، فهذا هو الفهم الصحيح لشيطان الشعر.
ثمّ يقول القرآن أمّا الشعراء فكذا وكذا ، وبهذا فهم حالة أخرى مستقلّة؛ أي لا تتنزّل عليهم الشياطين، وهو أيضا تقرير قرآني بكون الشعراء خلق لهم أسلوبهم في القول، وهو الشعر وفيه مجال المجاز والاستعارة والكناية وأساليب البلاغة. أمّا من يتبعهم فاتّباعه لهم ليس اتّباع جنديّ لقائد، ولا اتّباع صدّيق لنبيّ، وإنما متابعتهم على لغتهم التي يحسن فيها المجاز ونقل هذا المجاز إلى خارج الشعر، فمن فعل ذلك فهم الغاوون، فهم صفة قولهم أنّهم يهيمون في كل وادٍ مجازا وأي شطن وبعد هذا! وأنّهم يقولون ما لا يفعلون حقيقة لأنّهم يعنون المجاز أيضا، لكن من أخرج هذا الضرب من البلاغة من ساحة الشعر إلى ساحة الكلام العربي سواء من جهة الفهم أم من جهة الخطاب، فهو من الغاوين، ثمّ يستثني القرآن من الشعراء ما يستثني عادة أي المؤمنين منهم والعاملين الصالحات والذاكرين الله كثيرا، ثمّ يضيف إضافة اختصّ بها الشعراء دون الخلق، وهي الانتصار من بعد أن يظلموا، أي الانتصار ضدّ الظلم الذي خبروه، ثمّ يتوعّد الظالمين.
الانتصار على البلاغة
كما أنّ للشعر مستوى لغويّ خاصّ به، فللغة مستويات أخرى، ولكلّ مستوى من مستويات اللغة خصائصه وشروطه، ولغة العامّة من الناس في مستوى مختلف عن لغة الشعر والخطابة والرسائل وغيرها، وهذا ليس جديدا، فلم تكن في يوم من الأيّام لغة الأدب هي ذاتها لغة السّوقة.
ولا تخطئ العين هذا الاحترام البالغ مرتبة التقديس عند العوام لكل قول من مستوى أرقى من مستوى لغتهم، فيكفي أن تأتي ببيت شعر فصيح يقول بصحّة شيء يدرك العاميّ خطأه، حتّى يراه عين الصواب، كيف لا وقد أتى على شكل حكمة شعرية! أو حديث مفترى، أو آية عُضّيت وأخرجت عن سياقها لتعطي معنىً آخر، تحريفا للقرآن من بعد مواضعه.
ولا ينتصر على هذا الرّهاب البلاغيّ إلا فصحاء القوم، فهم لا يرهبهم جرس الكلام، ولا الهالة المضيئة حوله، بل يلمسون المعاني، ويقعون على حقيقتها، ولا يؤخذون على حين غرّة لغوية. ومن ذلك أنّ بعض النقّاد عرض عليه شعر ابن هانئ الأندلسي، فتمثّل المثل السائر بين العرب: “أسمع جعجعة ولا أرى طحينا”، وهو يعني به أنّ للقول جرسه الجميل لكنّه خال من المعنى الشريف، فهو كالرحى تطحن القرون، تصدر ضجيجا بلا طحين، لكنّ قول ابن هانئ هذا لو عرض على العوام لقالوا أنه فصيح كفصاحة المتنبي إن لم يكن أفصح، حتّى أنه سُمّي بمتنّبئ المغرب.
ويذكر أنّ أهل التوحيد والعدل (المعتزلة)، وهم الحركة العربيّة التّي أخذت على عاتقها الردّ على المطاعن الفلسفية والبلاغية للشعوبيّين، كانوا بشهادة خصومهم أهل فصاحة وبيان، ومنهم أهمّ الكتاب العرب في العصور القديمة، ولو عددناهم فلن نحصيهم لكن يكفيك أنّ منهم الجاحظ، وبشر ابن المعتمر، وهم شيوخ الفصاحة، فهلا انتبهنا للعلاقة بين كونهم عروبيين فصحاء، وبين أنّهم الحركة التي تصدّت للخرافات والأوهام في ذلك العصر.
خيانة المعنى
في العامية العربية يقولون (فعلت) فلا ندري من الذي فعل أهو القائل أم المخاطَب، وهذا مثال واحد من مئات الأمثلة التي تخطر لي عندما أفكّر في قصور العاميّة عن التعبير المقتصد،حتّى أنني أفارق لغة الصحافة إلى لغة العرب القديمة إذا قصدت معنى شريفا، خفت عليه وعلى نفسي من اللغة الهلامية أن ترهقني فيه كي أبينه ثمّ لا أنجح، وهنا لابدّ أن نفكّر في نوع الوعي الذي تشكّله العاميّة، والوعي الذي تشكّله لغة الصحافة، والوعي الذي تشكّله لغة جلسات المساجد التي تسمّى ظلما مجالس علم، وهكذا فلكل لغة وعيها المتميّز عن غيره.
وتعدد ضروب الوعي، وأنماط التفكير، التي يفرضها تعدد اللغات، ينتج مجتمعا مفكّكا، فهو مجتمعات متفرقة تشترك في الأرض، قد ينتج تفاعلها حاجات الحياة الرئيسة، لكنّه لا ينتج حضارة واضحة المعالم، ونرى أنّ النّاس في هذا الزمن هم أنفسهم غير واضحي المعالم، فتجد من أئمة (أهل السنّة والجماعة- أي الأشاعرة) من يقول بالقول العقدي الفلانيّ ثمّ أحد الأئمة لنفس التيّار مخالفة تقضي بتكفير بعضهما حسب ما يقولان، وتجد من يقول عن نفسه أنه “يتّبع كليهما” وهما على طرفي نقيض، وتجد أئمة السلفية وهم يذمّون الأشاعرة ويكفّرونهم ثمّ ينسبون نفسهم لأهل السنة والجماعة ألا وإنّهم الأشاعرة!
وهذا الخطل اليوم غير مقتصر على أهل المذاهب، بل يمتدّ للأحزاب السياسية، كلّها يمينا ويسارا، حتّى بعض الحركات القومية، فعلى سبيل المثال نجد “ناصريّا” مثل حمدين صبّاحي في مصر، ضدّ حكم العسكر بكونه حكم عسكر، وكأنّ عبد الناصر كان حائكاً أو مديرَ مصرف!
فاللغة التي شكّلت أذهانهم لم تكن جليّة، وبذلك كان وعيهم غائما وشخصيّاتهم غير وفيّة للمعاني التي تتبنّاهى، فقد تجد من يوافقك على مقاطعة العدوّ الصهيوني ويقف كتفا بكتف معك في حركة تدعو للمقاطعة الشعبية للكيان الصهيوني، ثمّ تراه يشتري بضاعة يعلم أنّها صهيونية، متحجّجا بحجج واهية، والأمثلة على هذا كثيرة فلا يتوقّع من لغة كاذبة (منهارة الثالوث) أن تشكّل وعيا صادقاً.
جذر الدّاء
أتمنّى من القارئ المتعصّب للإسلام ألّا يتوقف عن القراءة هنا، لوجود جُمَل صادمة، فليستجلي المعنى لعلّه يصل لحقيقة يطلبها منذ زمن، فالحقيقة الغائبة تحتاج لمعطيات جديدة حتّى تفصح عن نفسها، ولا أتوقّع منه تبعا لما سأبيّنه أن يلتقط الحقيقة ويصدَح بها فأنا أعلم أيّ وعيِ يمتلكه.
رسالة الإسلام تمتلك هذه الهالة القدسيّة التي تحيط بها، فتشعّ القداسة من اسم الله حتّى أنها لتحيط بمؤذّن المسجد أو بسائق سيارة أجرة بلحية طويلة _ وهذا التديّن الظاهريّ سنتناوله بتوسّع في مقال قادم (حتميّة النفاق)_ فإذا خطّأت أحد مرتدي العمائم، صاح العامّة بك: لحوم العلماء مسمومة! ولك أن نجيب: ورؤوسهم أيضا! هي جذر الداء.
ما يعرف بشجاعة الحقيقة مفقود اليوم، بسبب أزمان طويلة من التّقوى الجبانة، التي تتّقي الخوض في الكثير من المسائل خوفا من الضلال، وتغيب فحوى الخطاب القرآني من طلب التساؤل والتفكّر والفهم، لكلام يسمّي ذاته (قرآنا عربيّا)، كان أن احتكر المسلمون “تفسيره” وكأنه طلاسم لا يملك مفتاح شفرتها إلا هم، بل كل مذهب صادره على الآخرين، وهو في أصله كان خطابا لقوم لدّ في الخصومة، مشركين، ملحدين بآيات الله، فهو نزل لهم وليس للمؤمنين حصرا!
الوفاء للكلمة
وفي القرآن آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب، تتحدّث مع القوم بمفاهيم يملكون مصاديقها تماما ويملكون فهم علّة قرنها ببعضها فتخلق معان واضحة جلية في أذهانهم، وآيات أخرى متشابهات تتحدّث عن أخبار الغيب، من أمم سابقة، وقصّة الخلق، وغيرها مما لا يحيط القارئ بمصاديقها، والقرآن يقول لا يعلم تأويلها إلاّ الله، ولكن معناها غير مستحيل، فالمصاديق التي خارج كهف أفلاطون، لها ظلال معانٍ داخل الكهف، يمكن من خلال المجاز، فهمها وتخلق معنى يحقق غرض البلاغ، دون أن يجاوز حدّ البلاغة، فهي إن قيست فإنّما تقاس على لغة الشعر، لكن القوم اختلفوا فيها أيّما اختلاف، وباتوا يحملون المجاز على الحقيقة، ويحملون الحقيقة على المجاز، ويحرّفون الكلم من بعد مواضعه، وتشرّبوا التقوى الجبانة في قلوبهم، فهاهم يرون كلام ربّهم (أحسن الخالقين) ثم يقولون بوحدانية الخالقية، ويرون (الذين فرقوا دينهم شيعا لست منهم في شيء) ثم يقولون بالفرقة الناجية، ويرون آيات كثيرة تردّ أمر الساعة، التي جاء أشراطها منذ نزول القرآن، للغيب المطلق الذي لا يطّلع عليه حتّى النبيّ، ثمّ يقولون بعلامات الساعة، وهكذا دواليك.
فهم يقولون أنّ هذا الكلام صادق ثمّ يكذبونه بسبب وعيد أصحاب العمائم واللحى، وبسبب طفولة مصادرة لحفظ وتبنّي أقوال لا يفهمونها ولا يملكون مصاديق أسمائها، وكأنّ الوعي الجمعيّ للأمة كلّها، بات وعيا هلاميّا، ألا وإنّ العقل الجمعيّ للأمة هو لغتها، وهي التي تشكّل وعي الأفراد، فينشأون على هذا الوعي الكاذب، الذي خلقه فيهم ثالوث لغويّ منهار سائب المفاصل، فهكذا يستحلّون الكذب، ويخالفون مبادئهم، ولا يفون بوعد أو وعيد، وما هشاشة الشخصية العربية سوى ما سبق وما كان على منواله.
ولا أعلم دواءً لهذا الداء العضال غير الوفاء للمعنى، فلا تقل قولا لا تعيه ولا تعنيه، ولا تنافق نفسك في المعنى الذي تفهمه من كلام، ولا تذهب نفسك حسرات على ما ظننته حقّا فتبيّن لك أنه باطل، كن حادّ الذهن وفيّا للغتك، فإن الحقّ يثبت إذا صحّ أنّه حقّ، ولست موكّلا بحماية الله، بل إنّ الله سيحاكمك على أخلاقك ومروءتك، وصدّقك والتزامك ما تبيّن لك أنّه حقّ بعد تفكّر يتحلّى بشجاعة الحقيقة، هكذا تكون على أوّل درب الجذرية.