ميليغرام والله

سعى الدارس النفسي الاجتماعي الشهير ستانلي ميليغرام لاكتشاف تأثير السلطة على الأفراد، وقابلية الأفراد للتصرف ضد مبادئهم في حال وجود سلطة تأمرهم بذلك وتعفيهم من المسؤولية، وتجربته كانت معقدة وهي شهيرة تستطيع التعرف على تفاصيلها ببحث بسيط على محركات البحث. وخلال المقال سنمر على علاقة نتائج التجربة بواقعنا وبالله.

 

التجربة باختصار: قام ميليغرام بطلب متطوعين للخضوع لتجربة مدفوعة الأجر، وتقدم عدد كبير من مختلف الفئات العمرية والتعليمية. واتفق ميليغرام مع ممثل للقيام بدور التلميذ في التجربة. قبل بدء التجربة كان هناك اقتراع على من يقوم بدور الأستاذ ومن يقوم بدور التلميذ، وكانت قرعة مزيفة يحصل فيها الممثل دوما على دور التلميذ ويحصل فيها المتطوع على دور الأستاذ، يتعرف الأستاذ في التجربة على التلميذ- الممثل ويعرف عنه “حقائق” حول أنه مريض وتجاوز الخمسين ويراه وهو يُربط إلى كرسي كهربائي، ثم ينتقل المتطوع- الأستاذ  لغرفة مجاورة، وهي غرفة لا يمكن له فيها رؤية  التلميذ- الممثل بل سماع صوته فقط، وتحتوي على لوحة تحكم بالصدمات الكهربائية تشكل عقوبة للتلميذ- الممثل وتتراوح بين 30 فولت إلى 450 فولت، احتوت كل عقوبة أو فولتية على إشارة حول نوع الألم الذي تسببه، بكلمات مؤثرة وواضحة، ثم تبدأ المسرحية!

كان المتطوع- الأستاذ يلقي سؤالا لغويا بسيطا إلى التلميذ- الممثل، وكان يتلقى إجابات مسجلة خاطئة، يطلب إليه إثرها أن يعاقب التلميذ، وكان عليه أن يزيد في العقوبة شيئا فشيئا، وإذا أبدى ترددا كان يلقي عليه مشرف الاختبار أربع عبارات تقال بتراتبية لتدفعه ليفعل العقوبة، تبدأ بـ (لو سمحت أكمل) وتنتهي بـ (ليس لك خيار في أن تتوقف)، وتنتهي التجربة بإحدى حالين، اعتراض المتطوع موضوع الاختبار بعد الدرجة الرابعة من الأوامر، أو بلوغ العقوبة القصوى، التجربة مشهورة ونتائجها منشورة، ولكن المهم أن جميع العينة التي جرى عليها الاختبار بلغت العقوبة بـ 300 فولت وهي عذاب خطير لشخص (مريض عمره خمسون سنة)، وثُلثا العينة أتمَّت العقوبة إلى 450 فولت، في ظلِّ الصراخ الشديد للتلميذ المزيف وطرقه على الجدار الفاصل بين الغرفتين، بل وانقطاع صوته وكأنه مات!

نتائج التجربة كانت مرعبة، أنه وفي ظل تلقي الأوامر قد ينجح العامل الفردي بالحدِّ من التوحشَ بدرجة قليلة عند ثلث الناس فقط! وقال إثرها العالم ستانلي ميليغرام قولته الشهيرة (إذا كنت استطعت جعل مجموعة من الأفراد العاديين إيذاء رجل خمسيني مريض من خلال الأوامر، فبحق السماء ما الذي يمكن الحكومات أن تفعله!). نعم، طالما استخدمت نتائج تجربة ميليغرام في الهجوم الليبرالي على أي سلطة _وكأن الحكومات الليبرالية لا ينطبق عليها الشيء الإجرائي نفسه بصورة أسوأ!_ وضد عنف الجيوش أو الأمن حتى لو كان عنفا مضادًّا يأتي كرد فعل على سلوك عنيف من قبل “الإسلاميين” مثلا! لكن ماذا عن قياس تجارب سلطوية أخرى على تجربة ميليغرام! كالحاكمية مثلاً! نعم أنا أتحدث عن الله!

في تحليل تجربة ميليغرام وما شابهها من تجارب وصلت لنتائج قريبة، وضمن تنويعات حاول علماء النفس الاجتماعيين معرفة ما قد يحض نزوع الخير عند الأفراد وما قد يمنعهم منه في مقاومة سلطة تأمره بشيء لا إنسانيّ، بنى العلماء تصورا يقول: إن السلطة كانت فاعلة أكثر وأقوى ضمن عوامل مثل؛ اقتراب مشرف التجربة من المتطوع، وتصور المتطوع عن اطلاع أكبر عند المشرف عن حال التلميذ، وتصور المتطوع عن درجة احترافية أعلى لدى المؤسسة التي تجري البحث، ودرجة المسؤولية التي تحال له، ودرجة سلطة المشرف على المتطوع خارج التجربة، وهكذا…

في الحقيقة هذا ما يجعل المقاربة موحشة ومخيفة وتجفل الخيال قبل الدخول فيها، لدرجة أن تخلص سريعا للقناعة القاضية بحرمة زواج الميتافيزيقيا بالسلطة! انظر لقناعات من يتبع ديانة ما عن إلهه، مثلا الداعشي وتصديقه بسردية محددة عن الكون وصورة موحدة عن الله، وحرمة التعاطف مع الآخر لأنه “كافر” ويجب ألا “يتولاه”، ولا يحبه لكي لا يحشر معه، ولدرجة اعتقاده بقرب الله منه واطلاعه على نواياه، ولدرجة “سلطة المشرف” الذي يمثل خليفة الله في الأرض، ولدرجة اقتناعه بأن الذي عليه هو الحق وأنه صاحب حق! إضافة لعوامل أخرى مثل حقيقة سلطة العصابة عليه أو تصوره عنها، وتصوره عما يمكن أن يحدث لو خالف الأوامر! ناهيك عن نوعية الفرد المنضم لتنظيم إرهابي كداعش!!! وأنا متأكد من قدرتك على الاستطراد لو فهمت الفكرة، لذلك أكتفي.

ربما بعد قراءتك لهذه السطور لم يعد مُلغزا ذلك المنظر الذي منعت نفسك من مشاهدته، وكنت تتساءل في نفسك : مستعد أن أفهم القتل وأن أتفهمه، لكن كيف لإنسان أن يتفنن فيه، ما نوع هذه الكائنات؟! والآن أنت تعلم أنهم بشر مثلنا، لولا أن السلطة التي يأتمرون لها لا أخلاقية، والمبادئ التي يحتكمون لها تدفع للعُصاب! الفرق بيننا وبينهم أننا نحمل مسؤولية أفعالنا وسلطاتنا تحمل مسؤولية أفعالها بالنسبة لنا، بينما هم لديهم في أذهانهم صورة عن إله يحيلون له كل شيء! ويعلقون على شباكه ثياب خطيئتهم المنتقعة بدمائنا!

بعد هذا كله، أؤكد لك أنه لا فرق بين إخوانيٍّ وسلفي وداعشي ونصروي أو أي منظمة إرهابية دينية _وفي رأيي يمكن ضم أي ليبرالي يدافع عنها!_ فما داموا يؤمنون بالشرِّ الذي يدعى “الحاكمية” فهم مؤهلون ليكونوا وحوشا، والفرق بينهم هي الظروف المحيطة بهم ونوع الجمهور الذي يستهدفون التأثير فيه، والصورة التي يطلبونها لأنفسهم في وعينا، وبعد كل هذا يا صديقي ما زلت تتحدث عن “الحاكمية” ودولة الخرافة/ الخلافة الإسلامية! أو أي حراك سياسي ييسر لها بفوضى تؤهلها للخروج إلى أرض الواقع!