نافذة التمر

ليست كنافذة الغرب (أي النافذة التي تطل على جهة الغرب في البيت)، وليست كنافذة البيت (النافذة في جدار البيت)، وليست كنافذة الحديد (النافذة المصنوعة من الحديد)، فهي ليست من التمر ولا تطل على التمر ولا محفورة فيه! وليس لي أن أبين معنى الإضافة هنا بين لفظتين متباعدتين مثل النافذة والتمر إلا بأن أقول: هي نافذة نُطلّ منها على الإسلام ونفهمه فهما آخر من خلال التمر، فلنصغِ للتمر لعله يقول لنا شيئا عن الإسلام.

ورد ذكر متعلقات التمر (من نخل ورطب …) في القرآن أربع مرات: ثلاث منها من قبيل تعداد نعم الله على الإنسان، وواحدة في قصة مريم ابنة عمران، ومن يصدق بالقرآن فإنه أمام أمرين هامّين هنا تعرضه عليه نافذة التمر:

* أما آيات تعداد النعم فتقول لنا: أن القرآن لم يذكر الفاكهة الاستوائية الإفريقية والآسيوية الغريبة على البيئة العربية عندما عدّد النعم، وهذا لأنه من العبث مخاطبةُ القوم بمفاهيم لا يعرفون مصاديقَ لها، مثل الدوكو والسافو والسالاك مثلاً، وهذا بحد ذاته يفضي إلى أمرين آخرين: الأول (محدودية زمانية) أي أنه ليس من وجه لاعتبار ادّعاء أن القرآن يحوي على إشارات علمية لم يكن يعرفها العرب، لأنها حديث بمفاهيم لا يملك العرب مصاديقها! والآخر (محدودية مكانية) أي أن ادعاء عالمية القرآن ليس ادعاءً وجيها، من حيث أنه معزول عن غير الوطن العربي ومعزول في الوطن العربي من حيث القصص والأخبار والمفاهيم الواردة فيه، ولغته شاهدة على من ناكفنا في ما سبق!

* وأما آية سورة مريم فتخبرنا بأن ميلاد المسيح كان في موسم الرّطب، أي أن القرآن يخالف الرواية الشائعة في التأريخ لميلاد المسيح، وتقول أيضا أن المسيحيين العرب كانوا يخالفونها أيضا حيث لم يأخذ أحدٌ منهم قديما هذه الرواية مطعنا على صدق القرآن، مع أنهم أخذوا عليه مطاعن أخرى، فهم لم يكونوا يروا عجبا في كون المسيح ولد في ذلك الموسم البعيد بالضرورة عن توقيت “عيد الميلاد المجيد” وبهذا فالعرب المسيحيون قديما ليسوا كغيرهم من المسيحيين اليوم.

* وأما في المرويات الحديثية، ما يسميه الناس “السنة النبوية” فالتمر حاضر حضورا لا يمكن تجاهله، وكثير من الأحاديث المنسوبة للنبي يمكن تصنيفها في باب مديح التمر، بل إن هذا الباب وما جاء على شاكلته هو ما صنّف تحته جامعو الحديث هذه الأحاديث، فلا يقولنّ أحدٌ أن الترويج للتمر تهمة نرمي بها بعض الآحاديث! لكن المطلع على هذه الأحاديث يلفته هذا الحديث المرويّ من عدة طرق وبعدّة ألفاظ والمتفق على معناه بين كثير من أصحاب كتب الحديث:

(5435 حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ أَخْبَرَنَا هَاشِمٌ أَخْبَرَنَا عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ  – ص 2177 –  عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ  قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ اصْطَبَحَ كُلَّ يَوْمٍ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً لَمْ يَضُرَّهُ سُمٌّ وَلَا سِحْرٌ ذَلِكَ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ وَقَالَ غَيْرُهُ سَبْعَ تَمَرَاتٍ ) وهذا بلفظ بخاري مثبت فيه…

ولننتبه لما يقوله لنا هذا الحديث:

* إنه ما من أحد من المتشدّقين بصحة كتاب البخاري يصدق البخاري وأصحابه في هذا الحديث على التحقيق فإني أتحدّى من يدّعي تصديقه للبخاري ليتجرّع السمّ الذي نختاره له أو يختاره هو بعد أن يكون أكل ما شاء من التمر.

* إن المسلمين المتشدقين بتصديقهم لبخاري ومسلم لا يأبهون للعلم، ولا يمتلكون منهجا علميا يقومون من خلاله بفحص صدق نبيّهم إن آمنوا بصدق البخاري، أو فليرَ أحدهم إن كان هذا الحديث صادقا إما بالتحليل العلمي أو بالتجربة.

* إن المسلمين لم يلزموا أنفسهم المنهج الذي وضعوه في نقد المتون، أي قولهم بكذب كل ما خالف الواقع المحسوس، فلذلك بقي مثل هذا الحديث مثبتا عن الرسول!

* إن منهج نقد السند _يلحقه في ذلك سائرُ علوم الحديث عدا نقد المتن_ فاسد فهو نقل هذه الأكاذيب وأثبتها! ولم ينجح في استبعاد الأكاذيب.

* إن البخاري ومسلم وغيرهما من المصنفات تحوي كذبا على الرسول.أن واضعي الأحاديث المكذوبة كانوا يكذبون على الرسول باستخفاف مريب حتى قصدوا لتسويق سلعهم ومنها التمر.

* إنه إذا كان الكذب السخيف قد مرّ عليهم واتفقوا عليه فلا شهادة لهم عند ذي عقل!

* إن المشتغلين بمبحث العلوم الزائفة الذي يسمونه (الإعجاز العلمي) صغيرو الأحلام وسفهاء لدرجة أنهم انبروا يزيفون “إعجازا” ما وراء هذا القول الصفيق!

* إن جمهور المصفقين لهم لا يحقق وراء أقوالهم ويأخذ ما يقولون على أنه الصواب ولا صواب غيره، ومع ذلك فهم يكذبونهم واقعا.

* إن الشخصية “الإسلامية” تعاني من فصام بين ما تقول أنها تعتقده وبين ما تفعله، إذ أتباع البخاري اليوم لا يصدقون الأحاديث ولا العلوم الزائفة التي يصفقون لأبطالها لدرجة أن يتجرعوا السم.

* إن المبحث الذي اشتغل به السفهاء الذين ذكرنا وصفق لهم السفهاء الآخرون، من (إعجاز علميّ) في القرآن هو مبحث مشكوك به وبمبتدعه وبمصدقه، فهو عن طريق منهجه الفاسد الواضح الفساد لكل مشتغل بالعلم الحقيقي أو بالبلاغة يمرّر الترهات على أنها إعجاز! فهو ذات المنهج الذي مرّر وبرر هذا الزيف.

* إن العرب _وتبعهم على ذلك سائر المسلمين من بعدهم_ كانوا يقبلون الأحاديث التي تفيدهم تجاريا وهم لا يصدّقونها، فكيف بالأحاديث التي تفيدهم سياسياً! وهذا يتجاوز قبولها إلى وضعها وتلفيقها!

* إن المتأخرين من المسلمين والعرب كان فيهم شيء من عبادة الأسلاف وتقديسهم وتقديس أماكنهم وثمارهم، وهذا جليّ للمشتغلين بالشعر مثلا، وفي حديث آخر نرى أن أفضل رجال هم رجال زمن الصحابة وأفضل زمن هو زمنهم ثم الذي يليه ثم الذي يليه، أي أن هذه السلفيّة (عبادة الأسلاف) بدأت منذ وقت طويل.

* إن المسلمين يتعاملون مع القرآن على أنه “تعويذة” بركة، يصبح كل ما ذكر فيها مباركا! ولا يتساءلون عن أشياء سيئة ذكرت في القرآن، مثل الغائط!

* إن المحتوى العربي لاسيما الإسلامي منه على الانترنت يعجّ بالخرافات التي تعدد أبحاثا مزيفة تحت اسم “إعجاز” في القرآن والسنة.

حسنٌ سأكتفي بهذا ويبدو أن التمر فصيح لمن استنطقه، ومع ذلك فنافذته لا تطلّ على ما يشرح الصدر، ولن أتطرق لتاريخ تجارة التمور وكيف ورد التمر في شعر العرب، وما ورد من خرافات متعلقة به، وسأقف عند هذا الحد تجنبا للإطالة، ولأن التمر على فصاحته لا يسرني حديثه، كما أنه لا يسرّ كل متنطع سيأتي ليدافع عن الخرافات ثم لا يقنع بأي دليل! لكن تحدي شربة السم حاضر ولذلك لا مانع من جعل الناس ينظرون قليلا في نافذة التمر.