لام التعليل

مختصر السؤال: كيف نفهم استخدام القرآن لتعبير (ليعلم الله) وهل يتناقض ذلك مع فكرة علم الله الكامل؟

الإجابة : ستتخذ عدة محاور ( لغوي/ إسلامي/ عقلي)

-لغويا

إنتاج الدلالة من النص، أي نص، محدودة بحدود الخطاب، والخطاب محدود بما يعرفه المخاطَب، وإذا كنت تشك بهذا فلتصف اللون لشخص وُلِد كفيفا، وستعرف قصور لغتك مهما كنت فصيحا (راجع فكرة كهف أفلاطون)، وهذا من حدود عملية الاتصال، أي أن ذلك لا يشكك بقدرة الله، وإنما وجب التركيز على الدلالة المطلوبة من الكلام وهي أسيرة السياق، وهي هنا أنكم في اختبار لإرادتكم وأنكم متصرفون تمام التصرف بأفعالكم، وهذا هو الغرض البلاغي للكلام مهما كان لفظه وهو الحكَم على المعنى ضمن لغة العرب.

رفض هذه الفكرة من قبل البعض سببه اعتقادهم بقِدَم القرآن أي أنه أزلي، ورفض القول بأنه مخلوق محدث محدود بمكانه وزمانه، وهذا رغبة بجعله “معجزة” كونية، وهذه الأفكار ليست ذات منشأ إسلامي، بل لها سبب تاريخي وهو محاججة القس يوحنا الدمشقي للمسلمين لإثبات قِدَم السيد المسيح لأنه كلمة الله، والقرآن كلام الله، وحجة المعتزلة في ذلك حجة مسكتة، لها شواهد عقلية ولغوية وقرآنية لا يمكن ردها، أهمها أن القرآن يصف نفسه بكونه (ذكر من ربهم محدث) فهو محدث، والكلام في هذا يطول.

أما رفض فكرة التصرف الكامل بالفعل عند البعض فمرده رفضهم لفكرة أن الإنسان يخلق فعله، وهذا منشأه فكرة فلسفية قديمة تقول إذا كان الله خيرا مطلقا وهو وحده الخالق فمن أين أتى الشر، والحق أن تقسيمة (شر وخير) تقسيمة خاطئة، فالأصل أن نقول (عدل وظلم) والعدل هو وضع الشيء موضعه، ولأن الله استخلف الانسان (اي انسان سواء ملحد او مؤمن) فهو منحه القدرة على أن يريد ويعدل أو يظلم، وبذلك فالانسان قادر على وضع الشيء في غير موضعه، أي أنه خالق لفعله مسيطر عليه، ومرد رفض هذه الفكرة القول بوحدانية الخالقية، أي أنه لا خالق إلا الله والرد القرآني واضح (أحسن الخالقين) أي أنه ثم خالقين غير الله.

أي أن معنى الآية بات : أن الله يختبركم بعد إعطائكم حرية الاختيار وأنتم مسؤولون أمامه.

إسلاميا

لم يرد في القرآن أن الله كتب كل شيء مسبقا وإنما ورد أنه يعلم كل شيء، وفكرة القدر كما يفهمه الناس هي فكرة غير إسلامية، فالقدر عربيا هو ميزان الخلق وكيف خلقه الله فقدر خلقه أي أقام مقاديره، ولا يعني الإبرام المسبق للأمر، وهذا المعنى (الامر مسبق الإبرام) مولد وليس أصيلا، فالجذر هو من قدر اي كان على قدر وقد، القدر الثمن، والقدر المعادل وهكذا، ومنشأ الفكرة إسلاميا هو محاولة بني أمية تخدير الجماهير الرافضة لهم، فقالوا بأن الإنسان مجبر (فالجبرية هم من قالوا بالقدر/ وعكسهم القدرية من قالوا أن الإنسان قادر على الفعل) وكل ما تركب من هذه الفكرة فهو مبني على مرويات حديثية تخالف القرآن، وآية أركان الإيمان لا يذكر فيها القدر وهي على معنى ان من لم يؤمن بكذا وكذا وكذا فقد ضل ضلالا بعيدا، وليس من بينها القدر، فهو له منشأ تاريخي لا إسلامي، وهذا متصل بفكرة خلق الانسان لفعله.

أشكل على الناس فهم فكرة التخيير والتسيير لأنهم لم يلتفتوا لمفهوم التكليف الجماعي، أي ليس كل ما يحدث لي هو أمر أبرمه الله، فما ليس من عندي لا يكون حتما من عند الله وكأن الوجود ليس فيه سوى أنا والله، بل هناك الجماعة والتكليف الجماعي وهذا حاضر إسلاميا في فكرة (فرض الكفاية)، فدوائر الاختيار هي دائرة الانسان ودائرة الجماعة ومن ثم دائرة الممكن حسب الكون الذي خلقه الله، ولا ينكر هذا الرأي إلطاف الله وتدبيره للعبد ورحمته، لكن ان جلست في البيت فلن يأتي عادة لي رزقي المقدر بل ان الله خلق الناس وقدر فيها أقواتها أي خلق لهم ما يكفيهم من قوت (رزق)، ثم أوكل لهم جمعه… وإن قتلت أحدهم فسوف يموت وسأكون أنا القاتل لا انتهاء أجله، أي أنني ظلمت إذ تعديت على حقه بالحياة، وهذا محسوس ومن كفر بالمحسوس فهو أكفر ممن يكفر بالغيب.

علم الله التام هو علم الغيب والشهادة وعلم الساعة، كما يصفه القرآن، فالشهادة ما نشهده، والغيب ما غاب عنا (لكن هذا لا يعني أنه لم يحدث بعد)، وعلم الساعة وهذا فعله هو حسب إرادته هو، فمن الطبيعي أن يكون علمها عنده وليس عندي أو عندك، لكن الناس نسيت قوله في القرآن أن النبي لا يعلم متى تقوم الساعة وتعلقوا بمفتريات المرويات الحديثية التي تقول بأن الرسول كان بعلم وأخبرهم بما سيكون قبل الساعة من زمنهم حتى آخر الزمان، وهذه تفاهة أقل من أن تناقش، لأنها تخالف المحسوس وتخالف القرآن وتخالف العقل وتخالف تاريخهم.

أي أن الله لم يذكر علمه بما كان وسيكون وما هو كائن وما لم يكن لو كان كيف يكون!!! بل الناس “تفذلكت” وأنتجت هذه العبارات ذات الإشكال المنطقي، والتي يجعلها مقبولة لهم أنها مرتبطة بمن (ليس كمثله شيء) ومن قالوا بذلك احتجوا بقدرة الله، وهو في مجمله تحت مغالطة الاحتجاج بالمجهول، وهو ايضا يشبه صخرة ابن رشد (هل يقدر الله ان يخلق صخرة أكبر من قدرته على تحريكها) أي (هل يقدر على ألا يقدر) وهي من السفسطة وفقط، فليس هناك أرضية صلبة تقف عليها حجة تحتج بقدرة الله، وهي من المغالطات المنطقية المشهورة، فكل الكلام لا داعي له، ولا مانع إسلاميا أن يعلم الله الشيء إذ يحدث ما دام في تصرف العبد، بل وإن هذا هو منطوق القرآن في الآية قيد البحث.

عقليا

القَبل والبَعد هي حدود الزمان، والزمان مرافق للمادة، فحيث لم يكن مادة فلا زمن ليجري عليها، فهو محتاج لها ليكون فيه قبل وبعد، حتى خرج للوجود مصطلح الزمكان، فالزمن مخلوق في المادة كما هي مخلوقة فيه، وهما ضفيرة مختلطة، وهكذا يكون مخلوقا، وهو إسلاميا مخلوق حسب التراث، فما من حائل يحول بين المسلم وهذه الفكرة، ويرى العلماء أنه من منظور رياضي لو تجاوزنا سرعة الضوء في المكان، فقد نتجاوز الزمان، وسنضرب لهذا مثالا:

لنتخيل أنه في هذا الكون المترامي الأطراف هناك ثلاثة مراقبين، يتصلون فيما بينهم أسرع من الضوء، أحدهم على بعد سبعين سنة والآخر على بعد ألف سنة ضوئية، والثالث على بعد مليون سنة ضوئية، وتحاوروا حول ما يرون في تلك اللحظة فماذا سيكون مفهومهم عن الأرض، كل منهم سيرى الآن شيئا مختلفا عن الأرض، لأن الزمان والمكان هما شيء واحد في الأصل.

ثم فلنفكر بالتالي؛ أن المحدود لا يحتوي غير المحدود، فالزمن لا يحتوي الله داخله ولا خارجه، لنتخيل أننا ننظر للزمن في شريط فيلمي صوّر لشخصين يتعاركان، لكن هو امامنا مفرود بحيث لا نكون عالقين في لحظته الراهنة، فإدراكنا للغيب الماضوي والمستقبلي لا يسلب المتعاركين خياراتهما، فنحن انتفى عندنا القبل والبعد، وباتت الاشياء تحدث مرة واحدة، لكنها من تصرف وخلق الشخصين لا من عندنا نحن فقط لأننا نعلمها، ولو قدر لنا أن نحدثهما لحدثناهم بما يفهمون لا بما نفهم نحن.

لا بد أيضا من التنبه على أن الفكرة الجبرية في مفهوم القدر (الأمر المسبق الإبرام) تضع الله داخل حدود الزمان الذي يتجاوزه بعلمه لكنه محدود فيه كوجود وهذا شيء لا يوافق عليه القائلون بالجبر أي “بالإيمان” بالقدر كركن إيمان سادس!

بعد كل هذا فلنفكر في المعنى المراد، ولننظر هل كان هناك خيار لغوي غير هذه الصيغة؟ وهل هذه الصيغة بالفعل تتعارض مع الطرح القرآني؟ وهل هي مستحيلة عقلا؟! وهل الخيارات الأخرى ممكنة في حق الله : اي ان يخلق لي كل شيء ويخطط حياتي كاملة ثم يعذبني مع انني تصرفت حسب المقدور المبرم سلفا!!! أي هل يتوافق ذلك مع العدل؟!؟

وحتى لو استخدمنا طريقة ابن حنبل في الوقوف على اللفظ القرآني وفقط، فلنقل (ليعلم الله….)، ولنخرس عن فذلكات “يعلم ما كان وسيكون وما هو كائن وما لم يكن لو كان كيف يكون”!!!