“قل آمنت، ثم استقم!”

يروى في الأثر أن رجلا من ثقيف جاء النبيّ محمدا وسأله قائلا: قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدًا غيرك، فقال له: قل آمنت ثم استقم!


لا أشكّ كقارئ لآداب العرب أن الرجل وعى الكلام كما أعيه أنا، وأظنه بالمناسبة بعيداً عمّا يفهمه الناس اليوم منه، فهو فهم أنه عليه أن يعلن للناس أنه مأمون الجانب، آمِنُه، يؤامنهم، ويأمَنهم، وأن يحقق الاستقامة، من باب وفائه بما أعلن للناس من إيمانه لهم ومعهم، أي إيمانه بالله، ومن باب كل ما يحقق الاستقامة في نظره، والذي يستقيه من عقل شكّله المجتمع الذي يعيش فيه أيضا.

يجب أن نلاحظ هنا أن البلاغة الواردة في هذه المروية ترفعها فوق سائر المرويات التي نضيق بها مما يلوّث السمع والعقل والقلب، ويجب أن نلاحظ أن من طلب الاختصار وسأل غاية الدعوة المحمدية حصّلها على لسانه، خاليةً من كل سوء، فأجملها له النبيّ إجمالاً مبيناً، وترك التفصيل والأحكام وتطبيقها له، ويجب أن نلاحظ أن هذا الكلام يصلح لأن يوجّه لنا جميعًا، فلم يفقد قواميته حتى اللحظة، ولا أظنه سيفقدها يوما.

إذًا المطلوب هو الانتماء للاجتماع الذي أنت فيه، والاستقامة الخلقية. هذا كل شيء! نعم هذا كل شيء! أكررها لكي ترسخ: هذا كل شيء!

لكن عند تفكيك حدّي طلب الرسالة، تأتي التفاصيل والشياطين الكامنة فيها، فلأي جماعة أنتمي وأنا أنتمي في الحقيقة لعدّة جماعات متداخلة! أي أنني أنتمي لأسرتي التي أشكلها، وأسترني التي شكّلتني، وللعائلة والعشيرة والقبيلة، وللقرية أوالمدينة، أو كليهما، وللقطر، وللقومية، ولبني آدم، وللكوكب، ناهيك عن الانتماء للأيدولوجيا ومن يشاركونني بها! وعلى أي استقامة أستقيم، هل على ما أراه أنا استقامة ويحقق لي التصالح مع ذاتي؟ أم على ما يراه مجتمعي استقامة؟ أم على ما تحدّده ما يسمّى بالأخلاق الكونية المطلقة! من مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان!

أما عن أي الجماعات تصلح للانتماء! فالجواب يُشتقّ من أن مصالح هذه الجماعات متداخلة، والحَكَم في أي الدوائر هي الجديرة بالانتماء، هو الشرط التاريخي للوجود البشري، الذي يجعل دائرة ما هي الدائرة المفصلية التي إن تحققت مصالحها تحققت مصالح كل الدوائر، وقد كان الشرط من قبل بالنسبة لنا كعرب القومية الثقافية العربية، واليوم بات القومية العربية، متمثلة في دولة الوحدة العربية، الدولة الحديثة العَلمانية المتطوّرة.

أما عن أي استقامة نتحدّث فهنا نحن أمام باب جديد يفضي إلى ممر طويل ومتشعّب، لكن يجب أن نقرّر أن الحَكَم على الاستقامة هو العقل الفرديّ، الرقيب الداخليّ الذي يقول لك إن كنت شخصا يتحلى بالاستقامة أم لا! وهذا العقل الفردي في الحقيقة ليس مطلقا إلاّ عند شخصيات خيالية كحيّ بن يقظان، فالعقل الفرديّ صنيعةُ الخبرة الشخصية اللصيقة بالنشأة والمجتمع والمعرفة، وهو عقل يسعى لتحقيق المصلحة.

أما من أين تستمدّ الأخلاق فهذا مبحث طويل وباب للتفلسف وحتى مختصر تاريخ النظريات الخاصة بالأخلاق لن يكون شيئا مختصرا لو استعرضناه، لكن لوجعلنا نصنّف النظريات الخاصة بالأخلاق فأزعم أنها ستنقسم لقسمين رئيسين، هما:
النظريات الكونية، أي النظريات التي تزعم أن الأخلاق يمكن قياسها على عيار واحد، ومنها أغلب الأديان، أو لنقل تجليات هذه الأديان في عالم الأفكار، ومنها أيضا الأخلاق العولمية المستقاة من الخبرة الغربية الشمالية (الأطلنطية).
النظريات المحلية، وهي النظريات التي تزعم أن عيار الأخلاق عيار اجتماعي تاريخانيّ، قد ينطوي على تقاطعات كثيرة، لكن العيار هذا متغير تغيّرَ الاجتماع البشريّ في جغرافيته وتاريخه، وهذه مع أن دائرتها تبدو أصغر إلا أنها أقدر على احتواء الأولى بوصفها تعميمات غير عادلة للخبرة المحلية.

ما يزال الجدال دائرًا حول أي النظريات الأخلاقية أصح، لكن النموذج المحليّ أقدر على تفسير الظواهر كلها، ولذلك فهو الأقرب للحق، وهو بالمناسبة النموذج الذي يحفظ للفضيلة كونها فضيلة، فالنموذج الآخر يقتصر على حساب الدافعية الإنسانية حسبُ! والنموذج المحلّي هو الأقدر على استيعاب الاختلافات الثقافية وتحقيق حوار حضاري بين الحضارات، واستبعاد الصراعات الدامية. وحتى في الأديان فهو الذي يفسر الخلافات في المواقف الأخلاقية لأبناء الدين نفسه في أماكن متفرقة وسياقات متفاوتة.

إذَا من المنوط بك أنت حسب محلّك في هذا الكون زمانا ومكانا، كفرد وكعضو في الاجتماع الذي تنتمي له، حسب معارفك وما تراه يحقق المصلحة الجمعية، وضمن أيدولوجيتك، أن تحاكم مواقفك إن كانت تمتثل لما تراه استقامةً أم لا، وعليك أن تكون مستقيمًا لتحقق الرضا عن الذات. لكن مهلًا ألا يساوي هذا بين الجهول الراضي عن نفسه وبين العاقل الراضي عن نفسه؟ فإن كان ثمة تفاوت فما عياره؟

العيار الوحيد هو المعرفة، أن تعرف أكثر سيجعلك إنسانا فاضلًا أكثر، وهنا لاحظ أنني لا أتحدّث عن المعلومات، بل عن النظام الذي تنضوي فيه المعلومات، أي عمّا ينعجن بك ويصبح جزءً منك، وعن توقك للمزيد من المعرفة أيضًا وموقفك منها، وعدم تصلبك على ما أنت عليه، وأن تكون خلال هذه المسيرة إنسانًا أخلاقيًّا، نعم “قل آمنت، ثم استقم!” أو بلغة أخرى: أعلن عهدك مع مجتمعك ثم كن أخلاقيّا!